محمد فارس
يقول [عبّاس محمود العقاد] في كتابه [بين الكتب والناس]؛ صفحة (282) في مقال بعنوان: [خدمةُ اللغة العربية]: [لغتُنا العربية، لغة مخدومة، توفّر أبناؤها على العناية بها منذ عصر الجاهلية، وتجدّدت هذه العناية بعد ظهور الإسلام حين أصبح العلمُ باللغة علمًا بالدين مُضافا إلى العلم بالأدب والمعارف اللسانية على تنوُّعها، ولعلَّنا لو وقفنا عند القرن (17) لم نجد لغةً واحدة تضارعُ لغةَ العرب في استيفاء بَحثها والإحاطة بمادّتها وإحصاء مواردِها ومصادرها.. ويَبدو لنا أنّ نصيبَها من الخدمة في هذا العصر يقلّ عن نصيبِها من خدمة الأوائل]، قال هذا في الخمسينيات، فماذا كان سيَقوله اليوم إذا رأى ما آلتْ إليه أجمَل اللُّغات من أحوال متردّية وإهمال، حتى لإنّكَ تَرى في بلدان اللّغة العربية لا يُحتَفى بعيد هذه اللّغة العالمي الذي يصادف يوم [18 دجنبر] من كلّ سنة، في حين يُحْتفى بـ(الفرانكوفونية) وبسائر الأعياد التّافهة، فيُطَبَّلُ لها وتقام لها النّدوات، والـمُحاضرات، ويلعبُ الإعلام الكاذب دورًا كبيرًا في التّرويج لها، فهل سمعتَ يوم [18 دجنبر] حديثًا أو برامجَ حوْل اللّغة العربية اليتيمة؟
منذ سنة تقريبًا، يوم كانوا يتحايلون علينا لفَرض لغتهم الفرنسية في التعليم، يساندهم إعلامٌ مضلّل، ويقولون بتحرير اللغات، ولكنِ الـمُدْرِكون لخبايا سياستهم، كانوا يَعرفون مسْبقًا أن الأمرَ يتعلّق باللّغة الفرنسية التي تخلّى حتى الفرنسيون عنها، ولكنّ وزيرًا صرّحَ بدون استحياء بأنّ اللغةَ العربية أصبحتْ متجاوزَة ولا تساير العصر؛ ونحن نقول له إنّ اللغة بأهلها، يطوِّرونها ويُثْرونها ويعتزّون بها، فهي لسانهُم، وهي هُوِيتُهم إن كانت لكَ هُوِية أصلاً يا معالي الوزير؛ فكلّ تقدّم يا وزير، مستحيل بغيْر معاودة النّظر في اللّغة الأمّ للعلاقة بيْن الفكر واللّغة؛ وهذا سيّدُكَ الفرنسي [كوندياك] إن كنتَ تعرفه أصلاً أو سمعتَ به يومًا، يدْمج الفكرَ واللّغةَ دمجًا يَجْعلهما عمليةً واحدةً، ويقرّ بأنّ التّقدمَ مرتبطٌ ارتباطًا وطيدًا باللّغة، وأنّ تطوُّر العلوم مرتبطٌ بتطوّرِ اللّغة، وأنّ اللّغةَ ليست لمجرّد التّعبير عن أفكارٍ تكوَّنت، بل جزءٌ لا يتجزّأ من عملية التّفكير.. وهذا سيِّدُكَ الفرنسي [دي تراسي] يرى أنّ تطويرَ العلوم مرهونٌ بتطوير اللّغة، وأنتم تتحدّثون عن التّقدم من دون تطوير اللّغة العربية..
أنتم تجهلون حتى تاريخ بلدِكم إن كنتم تعترفون أصلا بأنّه بلدكم كما تدّعون كذبًا وبهتانًا؛ فاللّغة العربية هي جزء لا يتجزّأ من هذا التّاريخ، والاستعمار سَهُلَ عليه استعمار هذا البلد بعدما درس لغتنا وتراثَنا، ولن نستطيعَ التّحرّرَ من أغلاله إلاّ بالعودة إلى هذه اللّغة، وإلى هذا التّراث بعد تطوير الأولى، وتنقية الثاني وعِلمنَتِه (بكسر العَيْن) لا (بفتْحها). فأيُّ تقدّم أحرزناه منذ فُرضت علينا اللغة الفرنسية المتخلّفة؟ أيّ تطوّر لمسناه منذ فُرضتْ علينا قوانيـنُ [فرنسا] مع تَحكُّمِها في اقتصادنا، وإدارتِنا، ومناهجِ تعليمنا كما فُرِضتْ علينا سياسةُ المتفرْنسين في شتى مناحي الحياة وأضرابها بعكس ما يقرّه دستورُ هذا البلد؟ لقد رأيناكم تَحرصون في تصريحاتكم على قواعد اللّغة الفرنسية التي تقدِّسونها، ولكنّكم لا تحترمون اللّغةَ العربية إنْ كسَّرتم ضلوعَها، فتَنْصِبون الفاعل، وتَرفعون المفعولَ به وتَجلدون اللّغةَ العربية كما جَلدْتُمونا بسياستكم، وتُمنّونا بتقدُّم وهميٍ لن يأتِيَ أبدًا ولكن شُبِّه لكم.. فحتى التّاريخ وَأَدْتُمُوه وقد كان هذا البلدُ، بلدَ لغةٍ، وتاريخ، وعُلوم، وبطولات، لكنْ أنّى لكم أن تدركوا ذلك..
لـَمَّا طُرِدَ قيصرُ بَالِرْمُو وهو: [فريدريك] من الكنيسة للمرّة الثانية، أرسَل ذات مرّة يَطْلب استفسارًا من مغربي اسمُه [ابن السَّبْعين] في [سبتة] أيام الموحّدين، وكان [ابن السّبعين] هذا، شابّا في العشرين من عمُره يعتقد أنّ الإفرنجةَ شعبٌ همَجي غيْر مثقّف، فأرسل للقيصر إجابةً فيها صَلَف وتكبُّر، ولم يأْبَهْ [فريدريك] لهذا الرّد غيْر المهذَّب، بل ضَحِكَ وأمرَ رغْم ذلك بإرسال هديةٍ له، ولكنّ الشّاب المغربي المعتزّ بمغربيته، ردّها ثانيةً، ولم يَقْبَلْها، ومع ذلك شُغِف القيصر المثقّف بتبادُل الأفكار مع علماء، ومفكّرين مغاربة.. هذا المغرب الذي لا تَعرفونه وتجهلون تاريخَه، فهل كنتم ستردُّون هديةً إلى [فرنسا] كما فعَل [ابنُ السّبعين] المغربي؟ [فرنسا] هذه التي تَعتبر اليوم لغتَنا العربية لهجة، وثقافتَنا فولكلورًا، ودينَنا خُرافة.. جاءت قصّة [ابن السبعين] المغربي مع القيصر [فريدريك] الثاني في كتاب: [شمس العرب تَسطَع على الغرب] للمُستشرقة الألمانية [زيغْريد هُونْكه]؛ صفحة (451)، وقد كتبتْه في [مراكش].. كان القيصر الرّوسي [أليكساندرْ] يتحدّث اللغةَ الفرنسية، وفَرْنَسَ كافّة [روسيا]، وبعْد هجوم [نابليون] على بلاده سنة (1812) منع هذه اللّغة لأنّها لغة استعمارية كما قال.. فهل تَقدّمتْ [روسيا] باللّغة الفرنسية؟ الجواب: كلاّ! هل تتقدَّم [ڤيتنام] الآن باعتماد اللّغة الفرنسية؟ الجواب: كلاّ، وألفُ كلاّ! هل تقدمتْ ولو دولةٌ إفريقية باعتمادها اللّغة الفرنسية؟ فكلّ الدّول التي تسمَّى [فرانكوفونية] كلُّها متخلِّفة ما دامت هذه الدّولُ يقُودُها مُتَفَرْنِسون، ديكتاتوريون، يحْرصون على بقاء هذه اللّغة؛ ونَسأل المفكّرين، والفلاسفة، وعلماء المستقبليات: [من أين يَبدأ التّقدم والتغيير؟] فيجيبون بالإجماع: [من اللُّغة الأُمّ].. فمن هُم على حقّ، الخبراء أَمِ المسْتَلَبون الـمُتَفَرنِسون؟