احتضنت العاصمة المغربية الرباط، يومي الجمعة والسبت، ندوة دولية حول العدالة الانتقالية، التي جمعَت نخبة من الخبراء الحقوقيين والأكاديميين من مختلف أنحاء العالم، في إطار الاحتفال بمرور عشرين عامًا على تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة.
الندوة التي أُقيمت تحت شعار “مسارات العدالة الانتقالية من أجل إصلاحات مستدامة”، شهدت حضور شخصيات بارزة ونقاشات معمقة حول التجربة المغربية في هذا المجال، بالإضافة إلى التحديات والفرص التي تطرحها العدالة الانتقالية في السياقات العالمية.
وبهذه المناسبة، وجه جلالة الملك محمد السادس نصره الله، رسالة إلى المشاركين في الندوة الدولية، حيث استعرض جلالته التجربة المغربية في العدالة الانتقالية، مشددًا على أنها شكلت نموذجًا متفردًا أسهم في تحقيق المصالحة الوطنية وتعزيز دولة الحق والقانون.
وأوضح جلالة الملك أن إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة عام 2004 جاء استكمالًا لجهود الهيئة المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، التي أسسها جلالة الملك الراحل الحسن الثاني.
وأشار جلالته إلى أن هذا القرار السيادي عكس رؤية المغرب الجديدة لتدبير الشأن العام، حيث تم الاعتماد على مقاربة شاملة تستند إلى الشفافية والموضوعية، وتهدف إلى معالجة انتهاكات الماضي وتعزيز القيم الديمقراطية.
وأكد جلالة الملك أن الهيئة عملت على توثيق وتحليل جميع الانتهاكات التي عرفها المغرب منذ الاستقلال وحتى وقت تأسيسها، حيث تميزت التجربة بتنظيم جلسات استماع عمومية في المدن والقرى، وتوثيق شهادات الضحايا، لتعزيز المصالحة مع الماضي وكشف الحقائق.
وسلط جلالة الملك الضوء على الدور البارز للمجتمع المدني في دعم مسار العدالة الانتقالية، حيث أتاح الفضاء العام نقاشات وحوارات مفتوحة حول القضايا الحقوقية والتاريخية. وأسهم هذا التفاعل في تعزيز الوعي الجماعي بمناهضة انتهاكات حقوق الإنسان، وترسيخ مفاهيم المواطنة والمسؤولية المشتركة.
وتطرق جلالته في الرسالة إلى الجانب التنموي الذي رافق مسار العدالة الانتقالية، حيث تم دمج مفهوم جبر الضرر الجماعي ضمن السياسات الإنمائية، حيث تم تخصيص مشاريع تنموية للمناطق التي عانت من التهميش في الماضي، ما ساعدها على تجاوز النقص التنموي لتصبح نموذجًا يحتذى به. وأشار إلى التطور الذي شهدته الأقاليم الجنوبية للمملكة، والتي تحولت إلى منطقة جاذبة للاستثمارات، بفضل المشاريع الكبرى والبنية التحتية الحديثة.
وأكد جلالة الملك أن التجربة المغربية في العدالة الانتقالية حظيت بإشادة واسعة من المجتمع الدولي، وأصبحت نموذجًا يُحتذى به في الدول العربية والإفريقية. وأشار إلى أن هذه التجربة ساهمت في تطوير مفهوم العدالة الانتقالية عالميًا، والدفع بها نحو آفاق جديدة على المستويات الإقليمية والقارية والدولية.
وتضمنت الرسالة الملكية إشادة بدور هيئة الإنصاف والمصالحة في تقديم توصيات هامة شملت الإصلاحات التشريعية والدستورية، مثل تعزيز الحماية الدستورية لحقوق الإنسان وإنشاء آليات تشاورية ومؤسساتية تهدف إلى ضمان عدم تكرار انتهاكات الماضي.
ودعا جلالة الملك المشاركين في الندوة إلى الاستفادة من التجربة المغربية كنموذج ملهم، مع التركيز على أدوار البرلمانات والمجتمع المدني في دعم تنفيذ توصيات هيئات العدالة الانتقالية.
واختتم جلالة الملك رسالته بالدعوة إلى تعزيز الحوار الدولي حول العدالة الانتقالية، مؤكداً أن حماية حقوق الإنسان وضمان كرامة الأفراد والجماعات يتطلب استمرار الجهود والإصلاحات المستدامة. كما أعرب عن أمله في أن تُسهم الندوة في تسليط الضوء على التجربة المغربية كجزء من المسار التاريخي والسياسي للبلاد، ودورها في ترسيخ دولة الحق والمؤسسات.
وتُبرز هذه الرسالة الملكية التجربة المغربية كأحد النماذج الريادية في العدالة الانتقالية، التي جمعت بين المصالحة والتنمية، ووضعت أسسًا قوية لبناء مستقبل يقوم على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.