الهزيتي محمد أنوار. خبير في التنمية الترابية و إصلاح الإدارة. عضو المعهد الدولي للعلوم الإدارية
تلعب الإدارة العمومية الفعالة دورًا حاسمًا في تشكيل المشهد الاقتصادي للدولة. فالحكومات مسؤولة عن إدارة الموارد، وتنفيذ السياسات، وضمان رفاهية مواطنيها. ومع ذلك، عندما تتسم الإدارة العمومية بسوء الحكامة – الذي يتسم بعدم الكفاءة والفساد وانعدام المساءلة وسوء الإدارة – فقد تكون العواقب الاقتصادية وخيمة. إن فشل المؤسسات العمومية في تقديم الخدمات بكفاءة، إلى جانب تآكل الثقة في الحكامة.
الفساد: استنزاف اقتصادي كبير
يُعد الفساد أحد أهم مظاهر سوء الحكامة، وله آثار اقتصادية وخيمة وواسعة النطاق. يحدث الفساد عندما يستغل المسؤولون الحكوميون مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية، مما يُشوّه تقديم الخدمات العمومية ويُسيء استخدام الموارد العامة. ويزيد الفساد من تكلفة ممارسة الأعمال ويُقلل من جودة الخدمات العمومية، مما يُؤدي إلى استنزاف اقتصادي كبير للدولة. ووفقًا للتقديرات، يُكلّف الفساد الحكومات والشركات تريليونات الدولارات سنويًا، مما يُؤدي إلى تضخم كبير في أسعار السلع والخدمات. علاوة على ذلك، يُلحق الفساد الضرر بأهداف السياسات العمومية، ويُقلل الثقة في الحكومة، ويُقوّض الأداء الاقتصادي من خلال تثبيط الاستثمار، وتشويه إدارة الموارد الطبيعية، والإضرار بالبيئة. يتجلى تأثير الفساد على الاقتصاد بشكل أوضح في الدول التي تنتشر فيها الرشوة، ولكنه يتجلى أيضًا في أشكال أقل وضوحًا، مثل التحكم في قوانين الشغل، حيث تتلاعب المصالح الخاصة بقرارات السياسات لصالح فئة قليلة، تاركةً الاقتصاد الأوسع يعاني. وتتفاقم هذه الآثار في الدول النامية، حيث لا يُعيق الفساد النمو فحسب، بل يُفاقم أيضًا الفقر من خلال تحويل الموارد الأساسية التي كان من الممكن استثمارها في البنية التحتية والتعليم والخدمات الصحية.
أظهرت الأبحاث أن الفساد يُعيق النمو الاقتصادي بشكل كبير من خلال تثبيط الاستثمارات المحلية والأجنبية على حد سواء. ويقل احتمال استثمار المستثمرين في البلدان التي يتفشى فيها الفساد لأنه يخلق بيئة أعمال غير متوقعة وغير مواتية. ففي البلدان التي يُنظر فيها إلى الموظفين العموميين على أنهم فاسدون، غالبًا ما تُجبر الشركات على دفع رشاوي للحصول على العقود، أو تجنب التأخيرات البيروقراطية، أو الحصول على معاملة تفضيلية، مما يزيد من تكاليف ممارسة الأعمال التجارية. وفي المقابل، لا تُعيق هذه الممارسات التنمية الاقتصادية فحسب، بل تُسهم أيضًا في تفاوت الدخل، حيث لا يستفيد منها إلا من يملكون القدرة على المشاركة في الأنظمة الفاسدة، مما يُهمّش عموم السكان.
تراجع ثقة المواطنين وتراجع الثقة الاقتصادية
تتأثر العلاقة بين سوء الحكامة والأداء الاقتصادي أيضًا بفقدان ثقة المواطنين بالمؤسسات الحكومية. فعندما يرى المواطنون حكومتهم فاسدة أو غير كفؤة أو غير خاضعة للمساءلة، تتراجع ثقتهم بالمؤسسات العمومية. ولهذا التآكل في الثقة عواقب وخيمة على القطاعين العام والخاص. ففي المجتمعات التي يُنظر فيها إلى القطاع العام على أنه غير فعال أو فاسد، يقل احتمال مشاركة المواطنين والشركات في المبادرات الحكومية أو الاستثمار فيها، سواءً كانت تتعلق بالخدمات الاجتماعية أو تطوير البنية التحتية أو مشاريع الأشغال العامة.
لا يُعدّ هذا الانهيار في الثقة قضية اجتماعية فحسب، بل قضية اقتصادية أيضًا. فمن المرجح أن تُخفّض الشركات استثماراتها في البلدان ذات الحكامة الضعيفة بسبب المخاوف بشأن استقرار الإجراءات الحكومية وقابليتها للتنبؤ. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يؤدي تراجع الثقة إلى انخفاض المشاركة في العمليات الديمقراطية، مما يُقلل من رغبة المواطنين في دفع الضرائب أو دعم السياسات الحكومية الهادفة إلى تحسين الاقتصاد. علاوة على ذلك، عندما يفقد المواطنون ثقتهم بحكومتهم، قد يلجؤون إلى وسائل غير رسمية أو غير قانونية أو غير فعّالة للتعامل مع تقديم الخدمات العامة، مما يُقوّض قدرة الدولة على تعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة.
الإنفاق العام غير الفعّال وزيادة الضغط المالي
من العواقب الرئيسية الأخرى لسوء الحكامة في الإدارة العمومية سوء استخدام الأموال العمومية. فعندما تُدار المؤسسات العمومية بشكل سيء أو يسودها الفساد، يميل الإنفاق العام إلى سوء التخصيص أو الهدر. وفي كثير من الحالات، تُسحب الأموال التي كان ينبغي توجيهها نحو الخدمات الأساسية كالرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية أو يُساء استخدامها. ويؤدي هذا النقص في الكفاءة إلى خدمات عامة غير كافية، مما يُفاقم التفاوتات الاجتماعية ويُبطئ النمو الاقتصادي.
تُسلّط الأبحاث المتعلقة بالآثار الاقتصادية للإدارة العمومية الضوء على أن سوء الحكامة يؤدي إلى ضغوط مالية أكبر، حيث يتعين على الحكومات التعامل مع عواقب سوء الإدارة والفساد. لا يؤدي سوء توزيع الموارد إلى هدر مالي فحسب، بل يُضعف أيضًا قدرة الإدارة العمومية على الاستجابة للأزمات، مثل الركود الاقتصادي أو الكوارث الطبيعية. على سبيل المثال، خلال فترات الركود الاقتصادي، قد تواجه الحكومات ذات أنظمة الإدارة العمومية غير الكفؤة أو الفاسدة صعوبة في تطبيق تدابير تقشفية فعالة أو إصلاحات في القطاع العام. ويمكن أن يؤدي هذا النقص في الاستعداد إلى ركود اقتصادي طويل الأمد، حيث تعجز الدولة عن إجراء التعديلات السياسية اللازمة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. ويؤدي فشل المؤسسات العمومية في إدارة الإنفاق بفعالية إلى زيادة الدين العام، وارتفاع التضخم، وتفاقم التفاوت، مما يزيد من زعزعة استقرار الاقتصاد.
علاوة على ذلك، غالبًا ما يؤدي غياب الشفافية والمساءلة في الإنفاق العمومي إلى حلقة مفرغة من انعدام الكفاءة، حيث لا يخضع المسؤولون الحكوميون إلا لقدر ضئيل من التدقيق في أفعالهم. ونتيجة لذلك، يقل احتمال قيامهم بتنفيذ إصلاحات أو سياسات من شأنها تحسين جودة الخدمات وزيادة الإنتاجية الاقتصادية. ويؤدي هذا النقص في الإصلاح إلى تفاقم انعدام كفاءة الإدارة العمومية وزيادة العبء الاقتصادي على المواطنين.
ضعف الحكامة وأثره على النمو الاقتصادي طويل الأجل
يمكن أن تكون العواقب الاقتصادية طويلة الأجل لسوء الحكامة في الإدارة العمومية وخيمة. فأنظمة الحكامة التي تفشل في إعطاء الأولوية للصالح العام، أو تفتقر إلى المساءلة، أو تعمل دون شفافية، تعيق الإمكانات الاقتصادية للدولة. كما أن سوء الحكامة يعوق الابتكار، ويقلل الإنتاجية، ويبطئ النمو الاقتصادي. وغالبًا ما تواجه البلدان ذات أنظمة الإدارة العمومية الضعيفة صعوبة في تهيئة بيئة مواتية لتنمية الأعمال والاستثمارات طويلة الأجل. بدون سياسات عامة فعّالة، كتلك التي تهدف إلى تعزيز التعليم والابتكار التكنولوجي والممارسات البيئية المستدامة، تُواجه الدول خطر التخلف عن الركب في مجال التنافسية العالمية.
الحكومات التي تفشل في الاستثمار في السلع العمومية والبنية التحتية وتنمية رأس المال البشري – وهي مكونات أساسية لاقتصاد مزدهر – غالبًا ما تشهد ركودًا في الإنتاجية الاقتصادية. كما يُصعّب سوء الحكامة على الدولة معالجة قضايا حرجة كالفقر وعدم المساواة والبطالة، والتي قد تكون لها آثار بعيدة المدى على سوق العمل والإنفاق الاستهلاكي. وعلى المدى الطويل، يُقلّل هذا من قدرة الأفراد على المساهمة في الاقتصاد، مما يُفاقم عدم المساواة الاقتصادية. وبدون حكامة شفافة وفعالة، يُعاق التقدم الاقتصادي للبلاد، وتُحدّ فرص الحراك الاجتماعي، مما يُديم دورات الفقر وعدم المساواة.
5. الحكامة في إدارة الأزمات والمرونة الاقتصادية
يمكن أن يُضعف سوء الحكامة في الإدارة العمومية أيضا قدرة الحكومات على إدارة الأزمات الاقتصادية بفعالية. أبرزت الأزمة المالية العالمية في عامي 2007 و2008 أهمية إدارة الأزمات بكفاءة واستراتيجية في الإدارة العامة. تمكنت الدول ذات أطر الحكامة القوية من الاستجابة بفعالية أكبر، حيث نفذت إصلاحات اقتصادية وسياسات عامة مُستهدفة للتخفيف من آثار الركود. في المقابل، عانت الدول ذات المؤسسات العمومية الضعيفة، حيث كانت هياكل الحكامة غير فعالة أو فاسدة، من صعوبات في إدارة الأزمة، مما أدى إلى إطالة أمد الانكماش الاقتصادي وجعل التعافي أكثر صعوبة. تُعد القدرة على إدارة الضغوط المالية وتنفيذ سياسات اقتصادية سليمة خلال أوقات الأزمات جانبًا حيويًا من جوانب الإدارة العامة، إلا أن سوء الحكامة يُعيق هذه القدرة بشكل كبير.
ختامًا، تُشير النتائج إلى أن الآثار الاقتصادية لسوء الحكامة في الإدارة العمومية واسعة النطاق ومدمرة للغاية. فالفساد وانعدام الكفاءة وانعدام المساءلة يزيدان التكاليف، ويُعيقان الاستثمار، ويُقللان ثقة الجمهور في المؤسسات الحكومية. ويؤدي الفشل في إدارة الإنفاق العام بفعالية إلى ضغوط مالية أكبر، بينما يُقوّض سوء تخصيص الموارد الخدمات العمومية الأساسية. علاوة على ذلك، تُعيق أنظمة الحكامة الضعيفة النمو الاقتصادي، وتحد من فرص الاستثمار، وتعيق التنمية الاقتصادية طويلة الأجل. ولضمان نمو وتنمية اقتصاديين مستدامين، يجب على الدول إعطاء الأولوية لتحسين جودة الإدارة العامة، وتعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد. فمن خلال الحكامة الفعالة فقط، تستطيع الدول تهيئة الظروف لمستقبل مزدهر وعاد للجميع المواطنين.