محمد فارس
لعلّ الدّول التي عانتْ من ويلات الدكتاتورية والاستبداد، وكذلك التي حدثت لها نكبةُ الحروب، قد استفادت من ماضيها الأليم، واختارت سَبيل الديمقراطية في اختيار مسؤوليها ووزراء حكوماتها بعيدًا عن [قفّة رمضان]، وكلّ من يراودها عن نَفْسها بـ(200) درهم خلال الحملات الانتخابية؛ فهؤلاء الأثرياء يعتبرون الشعوب مجرّد قُطْعان تُباع وتشترى في [گورنة] الانتخابات، ومعلوم أنّ المصوِّت كما يقول [سارتَر] يختار لنفسه ولغيره، فالذين صوّتوا مثلاً على [أخنوش] قدِا اختاروه لهم ولنا مِمّا يجعلُ التّصويت مسؤوليةً خطيرةً وسيُسأل عنها يوم لقاء الله عزّ وجلّ، لأنّه بتصويته على [أخنوش] فإنّه شهد له بالاستقامة، وبأنّه الأصلح لتدبير شؤون الأمة نظرًا لورعه وتقواه، وقد اشتراه، وبعد فوزه، قذف به كما يُقذَف بلفّافة سجاير، ويريده أن يَبقى فقيرًا، وبلا شرف، وبلا ذمّة ليستغلّه في الحملات المقبلة، فهو يعْرف ثمنَه البخس، والمصيبة أنّه يَشتكي من ظُلمِ وجَوْرِ مَنِ اختاره هو وشَهد له بالوطنية في الـمِعزل.. يقول [سارتر]: [إنّ المعزَل المنصوب في قاعة دراسية أو في المختارية: (la mairie) هو رَمْز كلّ الخيانات التي من الممكن أن يرتكبها فردٌ تجاه المجتمع الذي ينتمي إليه]؛ فكلّ ما تفعله الأحزابُ المشكّلة للحكومة من حيفٍ وظلمٍ وجوْر، يشارك فيه حتى ذلك المواطنُ المغفّلُ الذي صوّتَ لها خلال الانتخابات..
لقد صوّت المغاربةُ للعدالة والتنمية، ذلك الحزب ذو الخَلفية الدّينية، والدّينُ منهم براء، فرأينا حقيقة من هم هؤلاء أصحاب [الدّعوة إلى الله]، وقد خدَعوا الشعب بالدين، وصدق [ابنُ رشد] حين قال: [إذا أردتَ أن تتحكّمَ في جاهلٍ، عليك أن تُغلِّفَ كلّ باطلٍ بغلافٍ ديني]، وهذا بالضّبط ما فعله حزب [البيجيدي]؛ ثمّ أتى من هو أسوَأ منه، وهو حزب التّجار، فازدادَ عددُ الفقراء، والعاطلين، والمشردين، وانهارتِ الصّحة، والتّعليم، وفشتِ المظالم، وازدادَ الأغنياءُ ثراءً وقت أزمة [كوڤيد]، لأنّ الأزمات تمثّل لديهم فرصةً، فجاءَ الجفافُ، فازدادوا ثراءً فاحشًا على حساب الشّعب.. فنحن لم نستفِدْ من ماضينا، وتجاربنا السابقة، ومن لا يستفيد من ماضيه، مُعرّض دائمًا لتكرار أخطاء الماضي، لكنّ شعوبًا، صار ماضيها الـمُظلمُ أمامَها لا خَلْفها، فاختارتِ الدّيمقراطية التي ليس فيها دينٌ يوظّف، و(قفّة رمضان) توزّع، بل فيها نزاهةٌ، وشفافية، وحسن اختيار.. وهذه دولةُ [الأوروغواي]، اختار شعبُها رئيسًا فريدًا من نوعه يُدعى [خُوسي موخِيكا]، فكان أفقر رئيس في العالم، تولّى رئاسة البلاد سنة (2010)، وقدّم استقالتَه سنة (2015)؛ رفض العيش في القصر الرئاسي، وكان يعمل لتوفير مساكن للفقراء والمشرّدين، كان راتبُه (12500) دولار، فكان يتبرّع بـ(90%) للجمعيات الخيرية؛ كان يعيش في بيتٍ بسيط عندما تولّى السّلطة، وكانت له سيارة قديمة من نوع [فولْگزواغن] فئة (الخنفساء) صُنِعَت سنة (1987)؛ في أيامه، انخَفض معدّل الفساد في البلاد إلى نسبة (80%)؛ وفي سنة (2015) قدّم استقالتَه وراح إلى بيته..
وهذا شعبُ الشّيلي، يختارُ رئيسًا متواضعًا يختلف كلّ الاختلاف عن الجنيرال الدّموي [بينُوشي]؛ رئيسٌ يحبّ القراءة، وخاصّة كتب التاريخ والفلسفة؛ ركّزَت عليه كل القنوات الإعلامية العالمية وهو يذهبُ إلى القصر الرئاسي بدرّاجة هوائية، ودون حرّاس أو موكب سيّارات فخمة، فمن هو هذا الرئيس يا تُرى؟ إنه الرّئيس [بوريتْش فُونتي]، ممّا جعله ينال إعجابَ شعبه، وإعحاب العالم بأسره.. فمن يختار هؤلاء الرؤساء ويصوّتُ لهم؟ إنّها الشّعوبُ التي استفاقَتْ من غَفْلتها، وصارت تتوقُ إلى مستقبلٍ أفْضل.. وهذا مستشار [ألمانيا] الحالي الذي يتنقّل في سيارة بالية، في بلدٍ يُنتج سنويًا (60) ألفَ سيارة فخمة؛ فانظُر إلى بلدنا [المغرب] الذي فيه أكبر عدد سيّارات الدولة في العالم، وانظُر إلى الجماعات المحلّية التي تجتمع للموافقة على شراء فخمة يفوق ثمنُها (55) مليونًا للرئيس.. وانظُر لوزير العدل كيف ذهب لتدشين مُلحقة عدْلية في موكبٍ مكوّن من سيّارات فارهة زمن أزمة المحروقات.. وانظر إلى سيارات الدّولة كيف تأخُذ الزّوجة إلى الحلاّق، والأطفال إلى المدرسة؛ وكيف يتوفّر المسؤولُ على [بونات] المحروقات المجّانية، فيما [أخنوش] يَفرض على المواطنين التّقشُّف، ويدمِّر قدُراتهم الشّرائية بالزّيادات في الأسعار.. ثمّ ارجِعِ البصَر كرَّتيْن لترى ما آلت إليه أوضاعُ البلاد التي غَرقت في ديون مُهولة، وما آلت إليه أوضاعُ الصّحة، والتعليم، والإدارة، وإلى أيِّ مستوى بلغه الفسادُ في البلاد بواسطة الفاسدين والـمُفسدين؛ لكن على من يُلقى اللّوم؟ علينا نحن الأموات بلا قبور، نحن الشّعب!