في مشهد قلّما يتكرر داخل المؤسسة التشريعية، عكست ندوة وطنية نظمت بمجلس المستشارين تحت شعار “البرلمان المغربي وقضية الصحراء: نحو دبلوماسية موازية ناجعة وترافع مؤسساتي فعال” إجماعًا وطنيًا عابرًا للخطوط الحزبية، واصطفافًا سياسيًا نادرًا خلف الرؤية الملكية بشأن وحدة التراب الوطني، في سياق إقليمي ودولي يتسم بتقلباته الجيوسياسية وتزايد منسوب التوترات مع الجارة الشرقية الجزائر.
الندوة التي نُظّمت صباح الإثنين، حضرتها قيادات من مختلف الأحزاب السياسية، وتحوّلت إلى منصة تأكيد على أن ملف الصحراء المغربية لم يعد مجرد قضية سياسية، بل أصبح عنوانًا لسيادة الدولة وشرعيتها، ودعوة لتجديد أدوات الترافع وتفعيل الجبهة الداخلية في مواجهة الاستهداف الخارجي المتصاعد.
من الإجماع النفسي إلى التعبئة المؤسسية
الأمناء العامون للأحزاب السياسية شددوا في كلماتهم على ضرورة الانتقال من “الإجماع النفسي” إلى التفعيل المؤسساتي والعملي، معتبرين أن اللحظة تقتضي تجاوز الخطاب الرمادي واعتماد رؤية منسجمة تجمع بين التعبئة الوطنية والدبلوماسية متعددة المستويات. وفي هذا السياق، دعا عدد منهم إلى استثمار الزخم الدولي المتزايد الداعم لمقترح الحكم الذاتي، وتحويله إلى رسائل قوية داخل المؤسسات الإقليمية والدولية.
وفي حين شدد رئيس اللجنة الموضوعاتية بمجلس المستشارين، لحسن حداد، على أن معركة الصحراء اليوم هي “معركة سردية واستباق وإقناع”، اعتبر أن التحولات الدولية من شأنها أن تمنح المغرب أوراق قوة جديدة، شريطة حسن استثمارها بتأطير سياسي وإعلامي ومجتمعي محكم، وبانخراط الجالية المغربية في الخارج كرافعة دبلوماسية ناعمة.
انتقادات للأداء البرلماني والدبلوماسي الموازي
عدد من المتدخلين لم يترددوا في توجيه انتقادات ضمنية للأداء الحالي للدبلوماسية البرلمانية. حزب الأصالة والمعاصرة وصف الإجماع الحزبي حول الصحراء بأنه “ما يزال نفسيًا وانتظاريًا”، مطالبًا بتحويل اللجنة الموضوعاتية إلى آلية دائمة تُراكم الخبرات وتُعزز الترافع البرلماني. كما دعا الحزب إلى تجاوز الأعراف البرلمانية التقليدية، وتشكيل الوفود على أساس الكفاءة بدل التمثيلية النسبية.
بدوره، شدد حزب العدالة والتنمية على أن النزاع المفتعل حول الصحراء يمثل “معركة وجود”، وليس مجرد قضية تصفية استعمار، داعيًا إلى التصدي لمحاولات عزل المغرب عن عمقه الإفريقي والعربي والإسلامي، وإلى تعزيز التماسك الداخلي عبر تعبئة شاملة لمواجهة تحديات إعلامية وقانونية وتنموية.
دعوات لتجديد مقترح الحكم الذاتي ودمقرطة الترافع
ولم تُخفِ بعض الأحزاب ذات التوجه اليساري ملاحظاتها حول البُعد السياسي والحقوقي في المقاربة المغربية. حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي دعا إلى “تجديد مقترح الحكم الذاتي” الذي قدمه المغرب سنة 2007، بإعطائه مضمونًا قانونيًا وتنفيذيًا أكثر وضوحًا، معتبرًا أن الوحدة الترابية لا تنفصل عن العدالة الاجتماعية والإصلاحات الديمقراطية. كما اقترح إطلاق نقاش وطني حول تصور جديد للحكم الذاتي، وتنظيم دورات تكوينية لفائدة الشباب الحزبي والمدني حول أبعاد القضية.
أما حزب التقدم والاشتراكية، فشدّد على أن ملف الصحراء ليس شأناً سياديًا فقط، بل قضية شعبية تُجسّد مشروعًا وطنيًا جامعًا يتجاوز الخلافات السياسية والإيديولوجية، محذرًا من “العداء المرضي” و”الممارسات الخبيثة” التي ينتهجها النظام الجزائري، مع التأكيد على مواصلة سياسة اليد الممدودة التي أطلقها العاهل المغربي.
وحدة وطنية في وجه التحرشات الجزائرية
الخطاب المشترك في جلّ مداخلات الأحزاب حمل نبرة نقدية تجاه الجزائر، التي وُصفت بممارستها العدائية ومحاولتها التأثير على شرعية المغرب ومكاسبه الدبلوماسية. وفي هذا الإطار، شدد حزب الاتحاد الدستوري على ضرورة استثمار المشاريع الكبرى كأنبوب الغاز مع نيجيريا والمبادرة الأطلسية في دعم موقف المغرب، مؤكدًا أن الاستقرار في الجنوب هو شرط أساسي لأي تنمية إقليمية.
أما حزب الاشتراكي الموحد، فاعتبر أن الجزائر تسعى إلى “فرملة تطور المغرب وديمقراطيته”، مستبعدًا أن يكون موقفها نابعًا من قناعة بتحرر الشعوب، بل من رغبة في فرض نظام قطبي مهيمن في المنطقة.
نحو ميثاق وطني للترافع المشترك
في ختام الندوة، برزت دعوات متكررة إلى بلورة ميثاق وطني شامل حول قضية الصحراء، يجمع الفاعلين السياسيين والمدنيين والنقابيين، ويرتكز على الشرعية القانونية والتاريخية والتنموية. كما تم التأكيد على ضرورة الانتقال من لحظة التشخيص إلى لحظة الفعل، ومن الترافع الانفعالي إلى الترافع الاستراتيجي القائم على المعرفة والاحتراف والدبلوماسية الهادئة.
ندوة مجلس المستشارين شكلت بذلك لحظة فارقة في مسار النقاش الوطني حول قضية الصحراء، أعادت التأكيد على مركزية الوحدة الترابية في المشروع الوطني المغربي، وأبرزت الحاجة إلى جبهة داخلية متماسكة تُواكب التحولات الدولية المتسارعة، وتُحصّن المنجز السياسي والدبلوماسي للمملكة.