عمر مروك/ باحث
الانتخابات التشريعية وانبثاق حكومة جديدة كانت فاصلا بين زمنين سياسيين، عبر فيهما الشعب من خلال صناديق الاقتراع عن رفضه للشعبوية وعدم تكرار مساوئ العشرية السابقة، وأعطى أصواته للأحزاب الثلاثة الأولى التي شكلت الائتلاف الحكومي الحالي ذي التوجه الليبرالي والتي رفعت شعار التغيير وحكومة الكفاءات من أجل تنزيل النموذج التنموي الجديد. عادة جرى العرف على أن الحكم على أي تجربة حكومية معينة لا يستوي إلا بعد مرور مائة يوم على تدبيرها، إلا أن من سوء حظ التجربة الحالية التي تعرضت لكم كبير من الشجب والانتقاد، تذمر منذ أسبوعها الأول جراء أسرع تعديل حكومي في تاريخ المغرب وارتفاع أسعار جل المواد الاستهلاكية، وكان الأجدر بها أن تتخذ مبادرة خلق قناة الثقة مع المواطن والخروج المبكر بأسلوب تفاعلي من أجل أن توضح للرأي العام إكراهات ضيق الحيز الزمني لوضع القانون المالي وكذا توضيح سبب اللجوء للزيادة في حجم الضرائب في وقت حرج يأمل فيه المواطن تعافي الاقتصاد وأحواله الاجتماعية من تبعات كورونا، ويتساءل حول مآلات وعود البرنامج الحكومي الذي سوقت له الأخيرة، كونه برنامج إنقاذ وتطلع للرقي والرفاه الاجتماعي.
لهيب ارتفاع الأسعار وتبعات الارتجالية في فرض جواز التلقيح ولدَا منسوبا كبيرا من عدم الثقة في المؤسسات وفي سوء تدبيرها للأمور، قابله شبه فراغ من حيث آليات التواصل والنقاش العمومي والخطاب الجدي والمسؤول من قبل الحكومة، مما من شأنه أن يترك الشارع والرأي العام تحت رحمة جهات قد تكون راديكالية في مواقفها وتوجهاتها ويعرض الشارع للاحتقان.
من هنا تبرز أهمية تجويد النقاش العمومي من خلال البحث في سبل جديدة للفعل والتفاعل بين مكونات الحكومة والفاعلين المؤسساتيين من جهة وبين مختلف شرائح المجتمع من جهة أخرى، وذلك من أجل تشجيع المشاركة والتدبير التشاركي التفاعلي والتربية على أسلوب الجدل العقلاني الحر والمسؤول في مختلف القضايا الاجتماعية وتمظهراتها، كل هذا في سبيل الانتقال بالمواطن من مرحلة الذات الاستهلاكية إلى واقعية النقد والمعرفة لمساءلة المؤسسات في تدبيرها للشأن العام.
النقد الفعال يكون عبر وسائط وقنوات محايدة وموضوعية لا تخضع لسلطة المال وشراء المواقف والذمم وبعض المؤثرين، ومن جهة أخرى إعطاء أهل الاختصاص من فاعلين مدنيين وخبراء ومثقفين حيزهم من الحرية للنقد وتحليل المؤشرات بدون خوف من المساءلة أو الزج بهم في متابعات أو تسفيه دورهم المجتمعي لا من شأن ذلك وقوع فراغ وهوة بين الحكومة والشعب.
الزمن السياسي الحالي لا يتحمل مزيدا من الشعبوية ولغة الفرجة وتسفيه الآخر، الزمن السياسي الحالي يتطلب الفعالية في التدبير والتواصل السلس المبني على مشاركة المعلومة وعدم احتكارها وعوض أن يناقش المواطن الأشخاص والأحداث سيتعود مع الوقت على مناقشة الأفكار والرؤى والمقاربات، وسيتعود مع الوقت على تجويد ملكاته في النقد وعدم امتصاص المعطيات الكاذبة أو التضليلية وفي الأخير سيعطي قيمة لصوته في الاستحقاقات الانتخابية وسيعطي مدلولا براغماتيا للتصويت في العملية الانتخابية، وبالتالي فتجويد النقاش العام سيجود في المستقبل من وعي ومن اختيارات المواطن وسيصير اختياره مسؤولية وعن بينة واقتناع، وهذا هو السبيل الرئيسي للبناء الديمقراطي، عبر إثارة النقاش العمومي حول السياسات القطاعية ومؤشرات الإخفاق والإنجاز وجعل صناديق الاقتراع الحكم حول النجاح أو الفشل وبالتالي جعل المسؤول المناسب في المنصب المناسب، وإلا ما المغزى من تداول نفس الأشخاص لنفس المواقع بدون ربط المسؤولية بالمحاسبة، وما المغزى من التموقع في المعارضة أو الأغلبية إذا لم تكن من أجل نقد السياسات والإتيان بالبديل الأنجع بعيدا عن لغة المشاحنات والشعبوية وتسفيه الآخر، والتي أضاعت عقدا من التنمية والتطور.
اليوم نحن بحاجة إلى تجويد النقاش العمومي من أجل تجديد النخب الحزبية والمدنية والدفع بالإعلام الاستقصائي الحر، كل من موقعه، من أجل الرفع من منسوب وعي المواطن بالسياسات العمومية والتفاعل المسؤول مع مخرجاتها، في أفق تحقيق وطن للجميع، يفيد الجميع ويستفيد من الجميع.