كان الآباء المؤسسون لحزب التجمع الوطني للأحرار على دراية تامة بالواقع السياسي، الذي كان منقسما بين ليبرالية محافظة واشتراكية كلاسيكية غير واقعية، لهذا اختاروا ما يمكن تسميته ب”قبض العصا من الوسط”، أي تبني الديمقراطية المجتمعية، التي ليست بدعة مغربية ولكنها موجودة كتيار كوني، غير أن أحمد عصمان، الذي كان مقربا من الملك الراحل الحسن الثاني باعتباره رفيقه في الدراسة وصهره ومدير ديوانه ووزير خارجيته، تطلع إلى بناء منظومة سياسية مغايرة وتأسيس تشكيلة سياسية قادرة على احتضان الأطر المغربية، التي لا تجد نفسها في التقاطبات الأخرى.
لم تمنع علاقة القربى من الملك الحسن الثاني أحمد عصمان من قول الحق والحقيقة، لأنه كان يسعى إلى المصلحة الكبرى للبلاد، ولهذا عندما أراد الملك حل حزب الاتحاد الاشتراكي، بمبرر الخروج عن الجماعة الوطنية كمفهوم ديني، عارضه عصمان بقوة، عكس ما يحدث اليوم من زعامات تفكر فقط في مصلحة حزبها، لأن منطق المنافسة يفرض أنه سيفرح لذلك لأن منافسا سيزول من الطريق. لكن مصلحة البلاد لا تحتمل ذلك لهذا رفض وبقوة.
اليوم يكون التجمع قد قطع من أيامه حوالي 44 سنة، تعرض خلالها لهزات، لكن بقي كما كان، وعندما تكونت حكومة التناوب التوافقي بقيادة الكتلة ومعارضة الوفاق، لم يكن غير التجمع بوسطيته وديمقراطيته المجتمعية ليكمل أغلبية عبد الرحمن اليوسفي. لكن بعد كل هذه المنجزات يكون التجمع اليوم مختطفا، ومن كان يعرفه سابقا سيكون اليوم أمام “مسخ سياسي”، بل هوية ولا إيديولوجية سوى تبني “الليبرالية المتوحشة” لا من منطلق الفهم السياسي والاستيعاب للواقع، ولكن من باب هيمنة “الهولدينغ” الاقتصادي على الحزب.
لما وصل أخنوش إلى رئاسة الحزب، ولم يكن عضوا فيه، حيث كان من قبل وزيرا مستقلا، أراد إسقاط طريقة تدبيره لشركاته على الحزب، وحتى من حيث المناضلين فقد عوضهم بالموارد البشرية للعاملين معه، فأطر شركاته اليوم هم أطر حزبه، ومن أجل تقديم سلاطة جيدة أضاف إليهم أطر وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية وعلى رأسهم الكاتب العام.
الديمقراطية المجتمعية، التي أرساها مؤسسو الحزب ومفكروه، كانت تسعى إلى الجمع بين منهجين، تشجيع المبادرة الحرة والمنافسة الاقتصادية، مع الاهتمام بما هو اجتماعي، لأن المجتمع المغربي لا يتحمل ليبرالية مطلقة، وبالتالي فهو في حاجة إلى الرعاية العمومية لعدد من القطاعات.
الليبرالية المتوحشة، التي نقلها أخنوش من الشركات إلى الحزب، هي غطاء لهيمنة الكارتيلات الاقتصادية على المشهد السياسي، وهو ما يسعى إليه “إمبراطور” المحروقات، وفي ذلك خطورة على المجتمع الدولة، لأن هيمنة الشركات الكبرى على المشهد السياسي فيها ضرب لكل ما هو مجتمعي وفي ذلك تهديد للحمة الدولة، بل محاولة لهدم كل ما بنته طوال سنوات تم خلالها نسج هذا المزج بين المبادرة الحرة والعناية الاجتماعية، لأن الشركات القابضة تريد أن تقبض على أرواح المغاربة.