محمد فارس
حدثَ إبّان العشرينيات من القرن العشرين، أنِ اضطلع ناشرٌ في [إنجلترّا] بمشروع طموح ونافع، وهو أنْ طلَب من مائة عالم وباحث وأديب، أن يتعاونوا على إخراج عدّة كتُب، كلٌّ في تخصُّصه، وتصوُّر ما سوف تكون عليه حياةُ النّاس بصفة عامّة، وفي [إنجلترّا] بصفة خاصة؛ وبعد خمسين عامًا من ذلك التاريخ، وكان في ظنِّه أنّ تقديم هذه الصّورة المستقبلية تتيح لكل من يهمّه الأمر، أن يتدبّره قبل وقوعه، وكان المفروضُ بالطّبع أن يُدْخِلَ هؤلاء المؤلّفون في حسابهم ما عساهُ أن يَنشأ خلال تلك الفترة من عواملَ تؤثّر في تشكيل الصّورة المرادُ تصويرُها.. وصدرتْ بالفعل تلك المجموعة من الكتب في حينها، ومضتِ الخمسون عامًا وتساءلَ النّاس إلى أيّ حدّ يا تُرى جاءت حقيقةُ الواقع مصدِّقة لما رسمه رجالُ العلم والفكر بصفة عامة؟ لقد وجد الباحثون أنّه برغم ما وقع في تقديرات المؤلّفين من أخطاء، فإنّهم بلغوا من دقّة الحساب حدّا يُلفت النّظر؛ كيف ذلك؟
كان منهم من توقّع وصول الإنسان إلى القمر، وحدَّد لذلك تاريخًا كاد أن يكونَ هو التاريخ الذي حدثَ فيه هذا الوصول.. وكان منهم من توقّع انهيارَ الاقتصاد البريطاني وانحلالَ الإمبراطورية البريطانية، وحدّد لهذا كلّه تواريخَ توشِكُ أن تُطابق ما حدث بالفعل.. وكانت هنالك بحوث خاصّة بتطوّرات علوم الفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا، وكان باحثٌ من هؤلاء في عِلم السّياسة قد تنبّأ بقيام دولة [إسرائيل].. كان حزبُ [العُمّال] قد وعد النّاخبين الإنجليز بوعود مُغرية وبمستقبل زاهِر في حالة فوزه في الانتخابات، وتوقّع تطوّرًا في الاقتصاد وانتعاشًا في حياة المجتمع، ولـمّا فازَ الحزبُ في الانتخابات، لم يحقّقْ ولم ينجزْ ولو القليل ممّا وعد به، ومن هنا ترى ما للباحثين، والعلماء، والمفكّرين من مصداقية وما للسّياسيين والمتحزّبين والدُّهاة والخدّاعين من أكاذيبَ، وخداع، وضحِك على ذقون المواطنين؛ لقد تحقّقتْ نبوءاتُ العلماء، وكذبتْ وعودُ السّياسيين الدُّهماء.. لقد باتَ في وُسعنا اليوم إلى حدّ كبير أن نكتب للمستقبل “تاريخًا” كما نكتب تاريخَ الماضي.. فكما نعْرف كمْ كان سكّان [المغرب] في سنة (1970)، يمكننا أن نحدّد كم سيكونون سنة (2022) وهذا عملُ الخبراء والعلماء، لا عمل التّجار المتحزِّبين..
لعلّي متأثر إلى حدّ ما بما أعرفه عن رأي [أرسطو] في السّياسة وكيف يُمزجها بمفهومه عن الأخلاق، فلئن كانت الأخلاقُ في نهاية أمرها تريد أن تُحقّقَ السعادةَ للفرد داخلَ المجتمع الذي هو عضوٌ فيه، فإن السّياسة هي في صميمها فرعٌ من الأخلاق، لأنّها لا تريد شيئًا أكثر من أن يتحقّق الخير للدّولة في مجموعها، وأنّ هذا الخير العام لا يُمكن فهمُه فهمًا واضحًا إلاّ أن يَكون حاصِل جمْع الخير الذي يصيبه المواطنون.. فأيّ خير أصابه المواطنون من تجّار الانتخابات، ومن عبدَة المناصب، ومِن كذَبة الحكومات المتعاقبة منذ بروز ظاهرة الأحزاب في السّاحة السّياسية ببلادنا؟ لقد جرّبناها جميعها، فاكتويْنا بنارها حتى كرِهنا التّصويت والـمُراهنة كمَنْ يراهن على أفراس خائبة.. لقد رأينا وعانينا من أحزاب تسمّى جزافًا أحزاب اليمين حتى أتانا اليقين؛ ثم راهنّا على أحزاب اليسار فصرنا بسببها في خَسار؛ ثمّ آمنّا بحزب الدّين، وبنضال متحزّبين متديِّنين، فصرنا بسببهم من الخاسرين، ثم اكتشفنا أنّ لنا حزبًا وحيدا لا تَعدُّدية..
صارتِ الأحزابُ مجرَّد هيئات ديكتاتورية يملكُها تجّارٌ يتَحكّمون في كافّة الثّروات، والخيرات، يجودون علينا بِـ(قُفَف) رمضان، والآن صاروا يمنّوننا بوعود خادعة مفادُها أنّهم سيَخلقون مليون منصب شغل، وسيرفعون راتب رجُل تعليم إلى (7000) درهم، وسيدْفعون (300) درهم لكلّ من لهم أكثر من ثلاثة أطفال، وسيساعدون مادّيا كلّ مَن هم فوق (65) سنة، وسيُعمِّمون التمتّع بالتّقاعد والتّغطية الصّحية، وهي كلُّها أكاذيب ومُخادعة انتخابية لا تقلُّ خداعًا عن (قفّة) رمضان، وعملية (جود).. هذه حملة انتخابية قبْل الأوان، وكان من المفروض مَنْعُهُم والحالةُ هذه من أيِّ استحقاق.. هؤلاء، لو كانوا صادقين، فلماذا ظلّتِ المحروقات مرتفعة الثّمن في [المغرب] رغم أنّ أثمانَها انخفضتْ في العالم بأسره؟ هؤلاء لو كانوا صادقين، لما تَهرّبوا من دفْعِ الضّرائب للخزينة، وقد حقّقوا الملايير خلال أزمة (كوڤيد 19).. على المواطن النّبيه أن يَعرف أنّ هذه الوعود خادعة، ومتعذّرة التنفيذ لأنّ [صندوق النقد الدّولي] لن يسمح بها، وهو الذي أمر حكومة [الإخوان] بخصم الثّلث من تقاعد المسحوقين، وأمرَ بالتّوظيف بالعقدة كما يتمّ توظيف المرتزقة، وهو الذي أمر بالاقتطاعات من الأجور، ويطالب الآن بتخفيض من عدد الموظّفين والعمّال، وما كانت حكومة [البيجدي] إلاّ ممثّلا فعْليا لهذا الصنّدوق المتحكّم في اقتصاد وفي سياسة البلاد؛ وأنتَ ترى الحكومةَ مشكّلة من تجار، وموظّفين سابقين بهذا البنك الاستعماري، ينفّذون تعاليمَه وسياستَه حَرْفيًا، ممّا يبرز خداعَ، وأوهامَ تجّار الانتخابات، وعبدَة المناصب، ورُهْبان أَدْيِرة المال والثّروات..