محمد فارس
كثيرًا ما شنَّف الأوروبّيون والغربُ عمومًا أسماعنا بالسّلام، وكم همُ البلهاءُ الذين صدّقوهم، وآمنوا بهذه الأوهام عبر الصحف، والمحللين، ووسائل الإعلام، ولكن التاريخ الذي قلَّما يُؤْخَذ برأيه، يدلِّل على حقيقة أخرى وهي أن السّلام هو مجرّدُ كلام وسِباحة في سَمادير الأوهام، قال تعالى في كتابه العزيز: [لوْ شاءَ الله ما اقْتَتلوا]؛ فالسلام تَنعم به الأمّةُ العادلةُ التي يُدير شؤُونَها سياسيون حُكماء، وخبراء نُزهاء، أمّا حكومات الاستبداد، وعُبّادُ المناصب الجَهلة، وكانِزُو الثّروات، ومُتْعِبُو الشّعب بالزّيادات، والماسُّون بالأقوات، فلا حظّ لأمّةٍ كهذه من السّلام ولوْ كان لها جيشٌ كبيرٌ ومعدّات، فلن تَنتصر في أدنى معركة يكون فيها الشّعبُ غائبًا، أو يائسًا، لأنّ الشّعب الذي يَنعم بالعدل والحُرية وله قِيَم وأخلاق وسلوك يكون دومًا هو الأقوى والمنتصر بجيشه العتيد فتكون له مهابةٌ واحترام..
قال [روسو] ذات يوم: [إن إرادة الشعوب، من إرادة الله]؛ والشعوب لا تُقْهر، قد يمرّ عليها حيـنٌ من الدَّهر تَظلُّ فيه نائمة فيعتقد الجهلاء أنه سبات أبديّ، لكن فجأة يَستيقظ هذا الشعب أو ذاك كما يَستيقظ بُركان نائم، والتاريخُ يؤكّد ذلك؛ فالشعوب هي التي طردت الاستعمار، وضحّت بالغالي والنّفيس في سبيل التحرُّر والانعتاق، وقد قضت فترة زَمنية عاشتْ فيها بلا قضية، ولكنّها ضحّت في الأخير من أجل قضية وهي الحرّية وهي أهمّ ما في الحياة ولا قيمةَ لحياةٍ بلا حرّية أو كرامة إنسانية، وإنّه لَخَيْر لكَ ألف مرّة أن تموتَ [سُقْراطًا] حُرّا، مِن أن تعيش خنزيرًا شبْعانًا، وفرقٌ كبير بين الحياة والعيش، فأيّهما تفضّل يا تُرى!؟ والشّعوب الحرّة تفضِّل الحياةَ الكريمة لا العيش الذّليل، والشّعوب الحرة هي المنتصرة دومًا..
لقد دلّنا التاريخُ أن الجيش الأمريكي مثلاً انتصر في حربه في [أوروبا] على النّازية، وفي حربه في [الباسيفيك] على [اليابان] لأنّ الشّعب كان وراء جيشه، ولكنّه (أي الجيش الأمريكي) انهزم في حرب [كوريا] وفي حرب [ڤيتنام] لأنّ الشعب الأمريكي لم يكُنْ وراء جيشه، وأحسَّ الجنودُ وهم في الحرب أنّ الشّعب لا يساندهم إطلاقًا؛ الشّيءُ نفْسُه حصل للجيش الفرنسي، حيث انهزم هزيمة مُذلّة في معركة [ديان بيان فُو] في [ڤيتنام] على يد شعب فلاّح لم تكُن له طائرات ولا دبّابات؛ وحدثتِ الأحداثُ نَفْسُها عندما دخلت [أمريكا] حربَ [ڤيتنام]، فكان السِّياسيون الأمريكان الذين يديرون هذه الحرب في [الهند الصّينية] يواجهون حربًا في الداخل يخوضُها الشّعبُ الأمريكي بِفنّانيه، ومُمثّليه، ومُغنّيه ضدّ هذه الحرب، كما واجهوا حربًا في الخارج عبْر مظاهرات في [برلين]، و[مدريد]، و[لندن]، و[باريس] و[طوكيو]، فكان من المستحيل النّصر في حربٍ لا تؤيِّدُها الشّعُوبُ، وهذه قاعدة تحْكم كافة الحروب، وتكونُ هي السَّبب في رِبْحِ أو خسارة أيِّ حرب حيثُما جَرتْ..
نعودُ إلى موضوعنا وهو السلام، وقد رأيتَ أيَّ سلام تحقّق بعد الحرب العالمية الثّانية وقد فشلت [عُصبةُ الأمم] في تحقيقه، ورأيتَ أيَّ سلام تحقّق بعد قيام [الأُمم المتّحدة]، وأيُّ دور قامت به لإحلال سلام الأوهام، وقد أنشِئَ بداخِلها مجلسٌ هو عبارة عن ظُلم مُتَستِّر، وطُغاة يُسمَّون [الأعضاء الدائمين] في [مجلس الأمن الدّولي]، وما يتمتّعون به من [ڤيتو] مُخالف للعدالة ولا مُبرّر له إطلاقًا.. وهكذا، لم يتَحقّق لا سلام، ولم يَسْتَتِبّ أيّ أمْن في قَرن السّلام ومجلس الأمن، لكنْ ما هو السّلام عند الفلاسفة وعلماء التاريخ؟ يُقال: سلمَ من عَيْب أو آفة، أي نجا وبرئَ مِنها، ومنه السّلام، وهو تجرُّدُ النّفس عن الـمِحْنَة في الداريْن، وبَراءتها من العُيوب؛ اُنْظُر (تعريفات) [الجرجاني].. والسّلامُ يعني [Paix]، وهي السّلامةُ والنّجاة، وله معْنيان: الأول عام، وهو النّجاة من آفة مُهْلَكة كآفة الحرب؛ والثاني خاص، وهو عند عُلماء اللاّهوت النّجاةُ من عذاب الجحيم، وإدراك السّعادة الأبدية؛ والسلام هو العيشُ في أمنٍ وأمان، لا ظلمَ فيه ولا جَوْر، بل كلّه طُمأنينة ووِئام؛ لكنْ هل تحقّق السّلام عبر التّاريخ قديمًا وحديثًا؟ صحيح، هناك فترات متقطّعة، حلَّ فيها السلامُ قصيرُ المدى، ولكن بعد هذه الفترة الوجيزة للِسلام، نشبتْ حروبٌ مدمِّرة، وغابتْ أُممٌ من الوجود، وتغيّرتْ خريطة العالم مرارًا، فظهرت دولٌ جديدة واختفتْ أخرى إلى الأبد، وجاءت حروبٌ استعمارية تَوسُّعية رزَحتْ تحت وطأتِها مجتمعاتٌ آمنتْ بالسّلام، فأدّتْ فاتورةً باهظةَ الثّمن لإيمانها بِمقُولة السّلام الزّائفة، وكان من أبرز الضّحايا الذين استَأْنَسوا بكذبة السلام، عالـمُنا العربي الذي صار دُويْلات لا قُوةَ لها ولا وَزْن في عالم الحروب..