محمد فارس
ليس من الضّروري دائمًا أن تكونَ مثقّفًا، وفي اللّغة فَحْلاً، وفي الفكر قِسّيسًا وفي العِلم ذا باع ومتاع لتَسيرَ بسفينة الأمّة من بحرٍ هائج متلاطمِ الأمواج إلى برِّ الأمْن والأمان؛ فالسّياسي الذي يتحمّل مسؤولية تدبير شؤُون الأمّة، وإيجاد حلول لأزماتها ينبغي له أن يتحلّى بالصّبر، ونكرانِ الذات، وترْك الأطماع والملذّات، قاصدًا بسياستِه وجْه الله، وعمَل ما يحبُّه ويرضاه مستنيرًا بتجارِب مَن هو أَعْرفُ منه في هذا القطاع أو ذاك، يأخذ بمشورتِه ويتّبِع نصائحَه، لا يشْغله المالُ وجمْعُه وكنزُه فيكون ماله قد شهد عليه ولم يشهَدْ له في الدّنيا أمام التاريخ، وغدًا عند لقاء الله عزّ وجلّ، وذلك هو الخُسْران الكبير والفشل الذّريع..
وخلال هذه المقالة، سنعطي مثالاً على ذلك بالوليد بن عبد الملك الذي كان جاهلاً وصالحًا، عكْسَ الوليد بن يزيد الذي كان فاسقًا ومثقّفًا.. قال أبو الزّناد: كان الوليدُ لحّانًا، قال على منبر المسجد النّبوي: يا أهلُ مكّة، برفْع اللاّم.. وقال روْح بن زنباغ: قضى الوليدُ مع أصحاب النّحو في بيْت ستّة أشهر، ثمّ خرجَ وهو أجْهل ممّا كان، أخرَج ابنُ أبي حاتم في تفسيره، عن إبراهيم بن أبي زُرْعة، أنّ الوليد سأله: أَيُحاسَبُ الخليفة؟ فقال: يا أميرَ الـمُؤمنين، أنتَ أكْرم على الله أم داوُد؟ إنّ الله جمَعَ له النُّبُوةَ والخلافة ثمّ توعَّدَه في كتابه: [يا داود].. مثْل هؤلاء، هم الذين يجب على رئيس الحكومة أن يحيطَ نفسَه بهم، واستشارتهِم عندما تضطرب الأفكارُ في رأسِه، وليس التّجار، وعبدة المناصب ممّا أثبتتِ التجاربُ أنّهم فاشلون حيث سمّاهم الله عزّ وجلّ: أَعجازُ نخْلٍ خاوية..
فماذا فعل الوليدُ بن عبد الملك للأُمّة؟ فُتِحَت في خلافتِه فتوحاتٌ عظيمة، وكان مع ذلك يخْتن الأيتام، ويهتمّ بالأطفال الفقراء، ويرتّب لهم المؤدّبين، ويرتّب للمعاقين مَن يَخدمهم، وللأضرّاء مَن يقودهم وعَمّر المسجد النبوي ووسّعَه، ورزَق الفقهاء، والضّعفاء، والفقراء، وحرّمَ عليهم سؤال الناس، وفرض لهم ما يَكْفيهم، وضبط الأمورَ أتمَّ ضبْط.. قال ابن أبي عبْلة: رحم الله الوليدَ! وأين مثْلُ الوليد؟ افتتَح الهند، والأندلس، وبنى مسجد دمشق، وكان يعطيني قطعَ الفضّة أُقسِّمُها على قراء مسجد بيت المقدس.. كان الوليدُ حريصًا على الدّين، مُحافظًا على الأخلاق والقيَم السّامية، محاربًا لكلّ فسادٍ ظهَر في الأمّة، ومن كلامِه أنّه قال: لولا أنّ الله ذكَر آلَ لوط في القرآن، ما ظننتُ أنّ أحدًا يفْعَل هذا.. لـمّا مات الوليدُ بكتْهُ الأمّةُ، وتحسّرتْ على فقْدِه وتذكّرت جليل أعماله، ونجاعة سياسته، وحُسن تدبيرِه لشؤُون الأمّة وحلِّ مشاكِلها، رحم الله الوليد! تلكم كانت بإيجاز قصّة الوليد الجاهل والمسؤول الصّالح..
لكنْ ماذا فعل الوليدُ بن يزيد المثقّف الشّاعر والسياسي الفاسق؟ من أبرز أعمالِه هو أنّه مزّقَ المصحف الكريم، وقال فيه شِعرًا ذكَره التّاريخ: [أَتُوعِدُ كلّ جبّارٍ عنيد * فها أنا جبّارٌ عنيد.. فإذا لقيتَ ربَّكَ يوم حَشْرٍ * فقُل لله مَزَّقني الوليد]، فمزّقَه الله بعد ستّة أشْهر، حيث قُتِلَ في بيتِه، ولـمّا حوصِرَ قال: أَلمْ أَزِدْ في أُعطياتكم؟ ألم أرفع عنكم الـمُؤَن؟ فأجابه محاصِروه: ما نَنْقِمُ عليك في أنفسنا، ولكن نَنقم عليكَ انتهاك ما حرَّم الله، وشرْب الخمر، ونكاح أمّهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله.. ولـمّا قتِل، وقُطِعَ رأسُه، جيءَ به الخليفة يزيد الناقِص، فنصَبَه على رُمْح، فنظر إليه أخوه سليمان بن يزيد وقال: بعْدًا له! أشهد أنّه كان شروبًا للخمر، ماجِنًا، فاسِقًا، ولقد راودني على نفْسي.. قال الذّهبي: اشتَهرَ الوليدُ بالخمر، والتلوّط، فخرجوا عليه لذلك.. وردَ في مُسْند أحمد حديث: ليكونَنّ في هذه الأُمّة رجلٌ يقال له الوليد، لهو أشدّ على هذه الأُمّة من فِرعَون لِقَوْمه.. فما أكثَر فراعنة زماننا هذا، وكان الله في عوْن أُمَمٍ تعاني من نيْرهم، وطُغْيانهِم، يذيقونَها أشدَّ ألوان العذاب والحيف، ويحْكُمون الشّعوبَ غصْبًا عنها، يزيّن لهم إعلامُ التّضليل أعمالَهم، فيصدّهم عن السّبيل.. قال شاعرٌ كذّاب يَمدَح الوليد الفاسق، ويُثْني عليه في قصيدة طويلة وكاذبة: [رأيتُ الوليدَ بن يزيد مُباركًا * شديدًا بأعباء الخلافة كاهِلُه]؛ ياه!