محمد فارس
يجدُر بي أن أُقدِّم اعتذاري عن هذا التأخير الذي يتجاوزُني، فهو ليس إهمالاً أو تكاسُلاً من طرفي، بل ناتج عن طول البحث وجَمْع المادّة قَبل الشّروع في الصياغة وهي كذلك مهمّة ليست بالسّهلة لكلّ من يخوض في هذه المواضيع التاريخية الشّائكة، فمعذرة! لقد ذكَرنا حروب القرن التاسع عشر، وما زخَر به من معاركَ وأحداث، حتى لإنّك لا تجد فيه سنةً واحدةً عمّ فيها السِّلمُ والأمنُ، ولكنّ حروبَ هذا القرن على كثْرتِها، لم تَكنْ أكثَر دمارًا وفتكًا من حروب القرن العشرين التي كانت تمثّل دمارًا دمويًا على قِلّتِها لأنّ الأسلحة كانت متطوِّرة، يصنعها العِلمُ والتّكنولوجيا فكانت أكثر فتكًا من أسلحة القرن التاسع عشر، ويَكفي أن نُشير إلى الحربيْن العالميتيْن الأولى والثانية، ولكنْ هذا لم يكُن ما عُرِفَ به القرنُ العشرون، لأنّه كان قرنَ الثّورات، والانقلابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الخطيرة، إلى جانب كوْنه قَرن المذاهب والإيديولوجيات التي حوّلتْ مجرى التّاريخ، وقلبتْ أوضاع الحياة القديمة وغَيّرتْ معالمَ المجتمعات وعقْلية الجماعات والشّعوب، كيف ذلك؟
من الصّعب أن تَجْمع هذه الانقلابات تحت اسم واحد وصِفة واحدة، وهي قد تجمَعها من النّاحية السّياسية وحدةُ القَصْد، إذ ترمي جميعُها إلى هدْم النُّظم والأوضاع القائمة لتنظيم الدّولة والمجتمع؛ فهي من هذه النّاحية، يمكن أن توصَفَ جميعًا بأنّها حركاتُ تغيير أو حركاتٌ هدّامة، ولكنّها تختلفُ من النّواحي الأخرى اختلافًا كبيرًا، ولكلٍّ منها مناهجُ خاصّة للتّنظيم والإنشاء؛ وقد تُسمّى هذه الحركاتُ الانقلابية أحيانًا بالمذاهب السياسية، وهو تعبيرٌ قاصِر عنِ الإلمام بمراميها، لأنّها لا تقصِد إلى التّنظيم السّياسي والحكُومي، ولكنّها في الواقع تَتناول المجتمع بأسره، وهو ميدانُ نشاطِها وتجاربِها، وعلى هذا الأساس، يَحْسُن بنا أن نُسمّيها بالمذاهب الاجتماعية وإنِ اختلفتْ في مُرتكزاتِها، وكلّها على اختلافها، عصفَتْ بإمبراطوريات قديمة، وملكياتٍ عريقة، والغريبُ في الأمر أنّ هذه المذاهب الدّيمقراطية منها والفاشية والنّازية والشيوعية هدَمتْ أنظمةً عريقةً ومَلكيات قديمة، وكلّ مذهب هدَم ما شاء الله له أن يهْدِم من أنظمة شاختْ ثمّ عمِلتْ على هدْم بعضِها بعضًا؛ يَاه!
كانت أول مَلَكية سقطَتْ في بداية القرن [20]، ملكيةَ [البرتغال] إذِ اغتيل الملكُ وابنُه؛ ثمّ أول إمبراطورية انهارتْ كانت الإمبراطورية العثمانية في شخص [عبد الحميد]؛ ثمّ تلتْها قَيْصريةُ [روسْيا]، فأُزيحَتْ أسرة [رومانوڤ] في شخص القَيْصر [نيكولا الثاني]؛ تلَتْها إمبراطورية [بروسيا] في شخص الإمبراطور [وِيلهيلْم الثاني] الذي نُفِيَ إلى [هولاندا]؛ جاء بعده دوْرُ الملكية الإسبانية، حيث اختار الملكُ [ألفونس. 13] منفاه في [بريطانيا]، كما انهارت إمبراطورية [هانغاريا ــ النّامسا] في شخص الإمبراطور [فرانز جُوزيڤ] الذي حكَم طيلة (68) عامًا وكان اغتيالُ وَلي عهدِه [فرانْسوا جوزيڤ] سببًا في نشوب الحرب العالمية الأولى.. وخلال الحرب العالمية الثّانية، توالى سقُوطُ الملكيات الـمُتبقّية، وهكذا سقطَتْ ملكيةُ [بلغاريا] في شخص الملِك [بوريس]؛ وتلاها سقوطُ ملَكية [رومانيا] واختار الملكُ الشّاب [مايْكَل] مَنفاه؛ جاء بعْده سُقوط ملكية [يوغوسلافيا] واختار الملِكُ [بيتَرْ] منفاهُ في [لندن] لأنّ له قَرابة مع العائلة المالكَة هناك؛ ثمّ سقطتْ ملكيَة [إيطاليا] في شخص الملك [عيمانْويل] حيث حُمِّل مسؤولية السّكوت عن جرائم [موسُوليني] فلم يَعزله بعدَ اغتيال الزّعيم الشّيوعي [ماتيُوتي] منذ (20) سنة خلتْ؛ كلُّها إمبراطوريات وملكيات لم تُطوّر نَفْسها، وتقاسمتِ الحُكم مع أُسَرِها حتى شاختْ في الزّمن، فلبِسَت الهرم وأولَتْ قيادات الحُكومات لوُزراء غيْر أكفاء، وتقاسَمتِ الثّروات مع أتباعها وأزلامِها فكان للتّاريخ رأيُه فيها، ثمّ احذَروا مَكْر التّاريخ، فلا مُسْتَحيلَ في التّاريخ..
لكنْ ما هي هذه المذاهبُ السّياسية التي برزتْ في القرن (20) وكانت سببًا في الحروب المدمِّرة؟ سنُوردُها هَهُنا حسَب ظهُورها في التّاريخ: 1 ــ [الفاشية]: تَسْتمِدُّ روحَها من الرّوح الرّومانية القديمة، ولكنّ الفاشيةَ تأثَّرتْ بالأمير الأمثَل في نظرِ [ماكياڤلّلي]، هو طاغية سفّاك، وإذا أدرَكْنا ذلك، أَدْركنا إلى حدٍّ الزَّعامةَ الفاشيةَ في وسائِلها العنيفة.. 2 ــ [النازية]: لم تكُنِ الاشتراكيةُ الوطنيةُ الألمانية إلاّ وليدةً لنفْس الـمُثُل الطّاغية العنيفة وإنْ تأثَّرتْ في صوْغ وسائلها وغاياتها بالرُّوح والأماني الجِرمانية العُنصرية، والقومية الـمُغْرِقة، واختصّت نفسها بمُثل ومبادئ سياسية واجتماعية جديدة في تنظيم الدّولة والشّعب، والدّين والدّنيا.. 3 ــ [الشّيوعية]: لا ريْبَ أنّ أعظم تجربة للفكرة الشّيوعية هي التي قامتْ بها [روسيا]، طُبِّقتْ في أحيان كثيرة، ولكنّها قامت على الدِّعاية وعلى الأساليب الإرهابية مع إلغاء كلّ مظاهر الثّروة ومُقوِّماتِها بالنّسبة للشعب فقط، وأما الحكّام، فقد كانوا يعيشون بذْخًا وتَرفًا.. 4 ــ [الديمقراطية]: تقلّبت في أدوار كثيرة، فتارة يشتدّ ساعدُها، وتارةً تَخْبو أمام تَيار الحُكْم المطْلق؛ كثيرةٌ هي الأنظمة التي تدَّعي الدّيمقراطية، وهذه الدّيمقراطية هي مجَرد سِتار للحُكم الدّيكتاتوري، وقد رأيْنا الدّيمقراطيةَ تسانِد أنظمةً استبدادية عبْر العالم، بل صارتْ طريقًا نحو الإقطاعية في الحُكْم والتّدبير..