محمد حدادي (و.م.ع)
ينادي بأعلى الصوت “م وي ا يا حاجي، م وي ا يا حاجي…”، (أي هنا ماء يا حاج)، م وزعا قنينات الماء بالي منى، فيما يرش باليسرى ببخاخ ماء على وجوه الحجيج، الذين لفحت ألسنة الشمس الكاوية وجوههم، فينزل عليهم كرذاذ يوم خريفي في أوج حرارة شهر يونيو الملتهبة.
تحت لهيب الشمس الحارقة، يقف الشاب فهد في عقده الثاني ممتلئا حيوية، بعينين ثابتتين، على الطريق المؤدية من مخيمات منى إلى موقع رمي الجمرات، حاملا علبة من قنينات المياه الباردة، وقد ارتدى سترة، تدل على تطوعه لمد يد العون للحجاج، والرد على تساؤلاتهم.
من يد فهد السخية المستبشرة يأخذ شيخ باكستاني أحنى الدهر ظهره قنينة ماء يروي بها ظمأه، بعد أن أرهقته شمس الظهيرة، م تمتما بدعوات بلغته الآسيوية المحلية لم يفهم منها الشاب فهد سوى كلمة “الله …الله”. ت خفي قبعة الشاب المتطوع عرقا يتفصد على جبينه ذي السحنة المائلة إلى السمرة، ابتسامته العريضة تفضح استعداده للتواصل مع الجميع، أو للإجابة على أسئلة حجاج أتوا من مشارق الأرض ومغاربها، أو لإرشاد حاج تائه بين الحشود الغفيرة.
تلك هي حال هذا المتطوع طيلة النهار، فيما يحاول زميله تركي توجيه الحشود والتخفيف من الازدحام صارخا “طريق حجي.. أمم ورا”، (أي افسح الطريق هناك حشود وراءك).
كثيرة هي تساؤلات الحجاج التي بات يحفظها الشاب فهد، والتي يرد عليها بتلقائية ويسر إما بعربية تخفي لكنة نجدية أو بإنجليزية جميلة، تدل على استيعابه للمهمة التي انبرى إليها خلال موسم حج هذه السنة، وإيمانه بقيم التطوع السامية.
بسواعد باسمة لا تعرف الكلل ولا ينال منها الملل، ينكب المتطوعون جاهدين على مد يد العون للحجاج ليرسموا البسمة على وجوههم في أطهر رحاب الدنيا وأفضل أيامها قدرا.
وعلى غرار فهد وتركي تجد المتطوعين ذكورا وإناثا في جل مواقع البقاع المقدسة في الممرات ومواقع وحدات الرعاية الصحية وفرق الهلال الأحمر، وفي المسجد الحرام بمكة المكرمة وبالمدينة المنورة أو في منى …، في مختلف المواقع التي يمكن أن يعبرها الحاج، تراهم مجندين لتسهيل ما استعصى على ضيوف الرحمان.
يقوم هؤلاء الشباب خلال موسم الحج بدور جوهري لا يمكن إنكاره في تقديم يد العون لمئات الألوف من ضيوف الرحمان بمختلف أعمارهم ولغاتهم والقادمين إلى الديار المقدسة من كل بقاع الدنيا، خاصة خلال الفترة التي تصادف مطلع ذي الحجة.
وتتنوع مظاهر وأشكال العون الذي يقدمه المتطوعون وباقي المجندين من مختلف الهيئات السعودية الرسمية والأهلية المعبأة لمساعدة حشود الحجيج، بحسب مهام فرق التطوع التي ينتمون إليها وطبيعة تخصصها. وتتباين أعمال تطوع هؤلاء الشباب بين أعمال ميدانية، وخدمات الترجمة وأخرى مكتبية، فضلا عن الخدمات الصحية والاسعافية والعناية بالمساجد ومواقع المشاعر المقدسة، وأخرى لمساعدة الحجيج.
إذا كان العمل التطوعي لا يقتصر على الشباب من السعوديين، فإن مشاركة بنات حواء في هذا العمل الإنساني، على نحو لا يقل أهمية عن دور المتطوعين، تضفي عليه طابعا خاصا، لاسيما عندما يتعلق الأمر بمهام الفرق الصحية والاسعافية وأعمال الترجمة والعمل المكتبي.
وعلى غرار أشقائهن الذكور تقبل شابات سعوديات على العمل التطوعي بروح مستبشرة سخية تظهر الأهمية الجوهرية لعملهن، خاصة عندما يتطلب الأمر التدخل لتقديم يد المساعدة لحاجات من مختلف الأعمار والأقطار.
وترى المتطوعات في موسم الحج فرصة ثمينة لتقديم يد العون وخدمة ضيوف الرحمان وتسهيل قيامهم بمناسك هذه الفريضة، الأمر الذي يزيد من قيمة دورهن في إنجاح موسم الحج، خاصة بعد خضوعهن لدورات وأوراش عمل، في مجال توجيه الحجاج وتقديم الإسعافات الأولية والخدمات الصحية.
ولعل ما يزيد من فعالية ونجاعة العمل التطوعي خلال موسم الحج كون الجهات المشرفة عليه تحرص على تنظيم دورات وورشات وندوات تعزيزا لقدرات المتطوعين ومؤهلاتهم، خاصة في ما يتعلق بسبل توجيه حشود الحجيج في الطرق وبين المشاعر المقدسة، في ظروف مناخية حارة خلال هذه الأيام، بدرجات حرارة تتراوح بين 45 و47 درجة مئوية تحت الظل، وفي فترات الازدحام.
وتعزز مهام التطوع هذه قدرة المتطوعين الشباب على تطوير مهاراتهم المهنية بفضل التدريب والعمل الميداني، فضلا عن اكتساب الخبرة والدربة على التواصل بالتعامل مع حجاج من مختلف الثقافات والأعراق، وإرشاد التائهين منهم وتوجيههم إلى مقاصدهم.
وحرصا على مزيد من الفاعلية والنجاعة يعمل المتطوعون على تنسيق الجهود والمهام بشكل دقيق مع الهيئات الحكومية وباقي الفاعلين والمتدخلين في الميدان، لاسيما عندما يتعلق الأمر بتنظيم حركة الحجاج، وتوزيع الوجبات والمياه، وتعزيز الخدمات الطبية والإسعافية.
ولئن كان التطوع بمفهومه العام يمثل قيمة مجتمعية وإنسانية نبيلة ترقى بروح العطاء، فإن قيمة العمل التطوعي خلال موسم الحج تزداد سموا وتألقا لاقترانها بقيم الإيثار وترسيخ حب العطاء والبذل والحرص على رفعة القيم الأخلاقية دون انتظار أجر أو جزاء، لاسيما وأنها ترتبط بمساعدة حجاج يؤدون مناسك دينهم في وقت هم في أمس الحاجة إليها.