محمد فارس
فما أسرع ما تحوَّل الأمرُ عند العربي المسلم من إعجاب بالتراث القديم إلى تقديس له يوهّمه بأنّ ذلك التّراث معصوم من الخطإ، وأتركُ للقارئ أن يُقدّر لنفسه كم هي النّسبة في التّراث الإسلامي العَربي لِلْكتُب التي تروي نقلاً عن الآخرين: تارةً تختار، وتارةً تؤرّخ، وتارةً تروي، وطوْرًا تصنّف، ثم كثُر الطّهاة حول المائدة، ثمّ أُلوف تتسقّط الفُتات المتناثر، كلٌّ يأخذ من هذا الفُتات ما وسِعَت حفْنتاه، وإنّي لَألقي بِبَصري الآن إلى رفوف مكتبتي، فهذا كتاب (العواصم من القواصم)، وهذا (مجمع الزّوائد)، وذاك (الصّواعق الـمُحرقة)، والآخر (البداية والنّهاية)، ومَا هذا؟ إنّه (الـمُسْتدرك على الصّحيحين)، وذاك هو (سيرة ابن هشام)، والآخر (الاستيعاب في معرفة الأصحاب)، وهذا (سُنَن فُلان)، والآخر (مُسْند فلان)، والذي بجانبه (صحيحُ فُلان)، والذي تحْته (نيل الأوطار)، وماذا فوقه؟ كتاب (آكام المرجان في أحكام الجان) ثمّ (المعجم الوسيط) ثم (تهذيب الآثار)، ثمّ (العقد الفريد) وبجانبه (ميزان الاعتدال) وعلى مقرُبة منه (تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس)، ثمّ لا تَنْسَ (تلبيس إبليس) و(الإقناع في حلّ ألفاظ أبي شُجاع)، و(مُغْني الـمُحتاج)، و(تبيين الحقائق في شرح كَنْز الدّقائق)، و(بدائع الصّنائع في ترتيب الشّرائع)، كما لا نَنْسى (الفتاوى الكبرى) لابن تيمية الحرّاني؛ وهكذا، أخذتُ وأنا أقلّبُ النّظر في منوّعات التّراث التي جعلت من أصحابها “علماء” منهم من يُقَدّس وكأنّه معصوم من الزّلل والخطإ، ومنهم من توصَف كتبُهُم بأنّها صحيحة وكأنّها وحيٌ..
هذا التّراث منه خرج الإرهاب، ومنه برز جهاد النّكاح، ونحن اليوم نعاني من تواجُد أطفال بلا آباء شرعيين، ومن هذا التّراث فشت ظاهرة زواج القاصرات، وبسبب هذا التّراث كثُر الزّنا في المجتمع، أليس في هذا التّراث: [أيُّما رجل وامرأة توافَقا، فعِشْرةُ ما بيْنهما ثلاث ليال، فإنْ أحبّا أن يتزايدَا، تَزايدَا، أو يتتاركَا]، فلماذا سنلوم مَن يقولون إنّ المرأة حرّة في جسدها؟ كيف سنحارب مثلا تزويج القاصرات، والنبي الكريم تزوّج قاصرًا وحاشا ذلك؟ كيف ستدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي التّراث أنّه دخل بيتَ امرأة مُشركة، فقال لها: [هبِي نفسَكِ لي!] فأجابتْه: [وهل تهِبُ الملكَةُ نَفْسها لِلسُّوقة؟] وحاشا ذلك.. كيف ستدافع عن النبي الكريم، وهو يحدّث الحمار (يَعْفور) ويسأله إن كان يحبّ الإناث؟ يوجد هذا في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير، ويعلّق القُمص [زكريا بُطرس] قائلاً: [إنّ الحمار كان أشرف، لأنّه لا يحبّ الإناث]، فكيف ستردُّ على [القمّص] وهذه الرّوايةُ وردَت في كتب التّراث الموبوء! كيف ستدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي تراثكَ أنّه سُحِر، وصار يخيّلُ له أنّه يفعل الشّيء وهو لا يَفعله؟ وفي هذا ضربٌ للوحي من أساسه؛ أضِفْ إلى ذلك أكذوبة أنّه كان ينسى القرآن، وحاشا ذلك؟ كيف ستدافعون عن النبي الكريم، وعن الإسلام، والخصومُ يوظّفون هذا التّراث، فكيف ستَردّون، وبماذا ستجيبون يا معشر المنافقين الذين يتظاهرون بالدفاع عن النبي الكريم؟ تكذبون على الناس الذين يَجهلون حقيقة تراثكم الملغوم، وتُلصقون التّهمَ بمَن نادى بتنقية هذا التراث الذي أساء للإسلام، ولنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام؟
فغالبًا ما تنتقدون المسيحيين، وتَعتبرون أنّهم يجسِّمون الله عزّ وجلّ في شخص السيد [المسيح] عليه السّلام، وأنتم كذلك في تراثكم الموبوء تجسّمونه، ألمْ يقُلْ [ابنُ تيمية] الملقّب بشيخ الإسلام: [إنّ الله ينْزل من على العرش، كما أنزِلُ أنا الآن من على المنبر]؟ فغضب [ابنُ بطّوطة] وخرج من المسجد في [سوريا] قائلاً إنّ هذا الإمام يعاني من شيء في عقله؟ وهذا [الزَّمخْشري] يقول في أحد أبياته: [وإن (.؟.) قلتُ، قالوا إنّني ثقيلٌ، حلُوليٌ، بغيضٌ مُجسِّم].. فعلى من تَكذبون يا هؤلاء! فما فائدة كثرة العُلماء، وما هُم بعلماء، ورحمَ الله [أبا حيّان التّوحيدي] لـمّا قال: [أيّها الفقيه، عِلمُكَ لفْظ، وروايتُكَ حِفْظ، وعملُكَ رفْض]؛ ما فائدة المؤتمر الإسلامي، وجمعيات إسلامية غُثائية، ولِحَا حمراء مصبوغة وممدودة حتى الصّدور، وعَمامات مُنتصبة وهُم يردّدون كلامًا مكرورًا، ومملاّ، وهُم [أبغَضُ القرّاء] كما سمّاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.. لقد نادى مفكّرون من أمثال [زكي نجيب محمود]، و[عبد الرّحمان بدوي]، و[الطّيب تيزِيني] بالعودة إلى هذا التراث، عودةً تراثيةً لتنقيته ممّا علِقَ به من شوائبَ، وأكاذيبَ، وإسرائيليات، لكنّهم كُفِّروا، ونُظِّمَتْ ضدّهم حملاتٌ مُغْرضَة، ولفّقَتْ لهم تُهَمٌ مفَبْركة، لكن [عبد الله العَروي] ذهبَ إلى أبْعَد من ذلك، ونادى بإلقاء هذا التّراث في البحر جملةً وتفصيلاً فوافقَ ما كان قد قاله الفيلسوفُ [داڤيدهيُوم] إن الكتب غيْر النّافعة يجب أن تُحْرَق.. فما هي خُطَطُكُم، وقد كثُرت وسائل الإعلام، وفضحتْكُم، وسفَّهتْ نِفاقَكم؛ فماذا أنتم فاعِلون يا هؤلاء!