ذات يوم استاء المثقفون الأمريكيون من “صناعة التفاهة” بتعبير الفيسلوف الكندي آلان دونو ورفعوا شعار “توقفوا عن تحويل الأغبياء إلى مشاهير”، وهي التي لخصها الروائي الأمريكي جورج سانتايانا بقوله “حب الشهرة أعلى درجات التفاهة”. في بلادنا نعيش منذ فترة حركة قوية لصناعة التفاهة في كافة المجالات وعلى كل المستويات، والغرض منها هو إفراغ كل المؤسسات من الفعل الجاد.
إذا كان من غير حقنا أن نصف شخصا بأنه غبي فمن حقنا أن نصف فعلا بالغباء، حتى لو كان صادرا من رجل مثقف ونبيه لكنه وقع في اللبس والاختلاط والشبهة، فما بالك بشخص رأسماله الوحيد “قهقهة” من مكان بعيد في إحدى بوادي المغرب العميق، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصا موقع “تيك توك”، فانتشرت كالهشيم في النار، وتسابقت إليه شركات إنتاج لإعلان منتوجاتها، بل إن القناة الثانية في المغرب أعدت عنه روبورتاجا وافيا.
إن انتقال “قهقهة” تافهة من مواقع التواصل الاجتماعي، التي توجد قوى كبيرة تمارس داخلها صناعة التفاهة، إلى قناة عمومية، يتم تمويلها من جيوب دافعي الضرائب، يحمل عنوانا واحدا هو “دعم التفاهة” على حساب الجدية، وهو مشروع متواصل منذ زمن حيث يتم تهميش الفن الأصيل، الذي يحمل قيما محلية لفائدة فن هجين بلا طعم ولا لون ولا رائحة، بل يتم الترويج لقيم بعيدة عن قيم المجتمع المغربي.
لا يهمنا أمر الملالي، الذي هو من إحدى الجهات ضحية لمعمل تفريخ وصناعة التفاهة، ولا تهمنا محاكمته ولا شكلها، ولكن ما يهمنا هو هذا التوجه نحو تمريغ صورة المغاربة في صناعة غريبة، حيث كان المغرب يموت جوعا ولا يحني رأسه، فأصبح المغربي والمغربية يمكن أن يجلبا المال من تصوير تافه داخل المطبخ بلباس رديء ومقرف أصلا لكنه يستحث بعض الرغبات لدى المشاهدين، مما يجعل أن “آهيا ناري.. لحنش خلع مي نعيمة” يقف على هضبة التراند ويحقق أربعة ملايين مشاهدة، ويوتوبرز تافهة تقضي وقتها في تبادل الشتائم مع عائلة زوجها يوقفها الناس في المقاهي لالتقاط صورة معها، في وقت كانت الصورة تؤرخ للقاء مع فنان كبير أو كاتب شهير أو رسام محترف.
اليوم انقلب كل شيء، وهذا أمر مخطط له، حيث إذا دخلت صاحبة روتيني اليومي، تم تكريسها مشهورة، إلى المقهى سيتعرف عليها الزبناء أكثر من كاتب كرس حياته لخدمة الثقافة وحتى أكثر من فنان رصين، أما كثير من “الفنانين” فهم لا يختلفون عن صاحبات فيديوهات التفاهة إلا في كونهم يستطيعون “الصراخ” في الميكروفون.
تم توقيف صاحب الضحكة الشهيرة لأنه تجاوز الحدود في أحد الفديوهات. إذا كان صاحب القهقهة استطاع تجاوز الحدود، فما بالك بمن يعرف “جمع الكلمات” في جمل؟ ألا تشكل التفاهة خطرا على المجتمع والدولة؟ فمن يدعمها إذن؟ أليس من يدفع بها إلى الأمام يريد إفراغ المؤسسات من محتواها؟
توقفوا عن تحويل الأغبياء إلى مشاهير وإلا سيكونون عماد الخراب.