محمد فارس
حصَل خصامٌ حادٌّ بين دوّارة الهواء وإبْرة البوصلة، كان الشّجارُ حاميًا، والـمُساجلة عنيفة والحوارُ شديد اللّهجة؛ بدأتْ دوّارة الهواء تتباهى كما يتباهى الكذَبَة، والسّياسيون الميْسُورون بإخفاقاتِهم؛ صارت تَتبختر وتقُول في غرورٍ فائق: إنّني حُرّة، إنّني أدورُ في كلّ اتجاه وكيْفما يحْلو لي، اليوم أَدور إلى اليمين، وغدًا إلى اليسار، أتحرّك متى أشاء، وأسكُن متى أشاء، أمّا أنتِ أيّتُها الإبرةُ الـمُمَغْنطة فحيْثُما أداروكِ، وحيثُما وجّهوكِ، عُدْتِ لتشيري على الدّوام إلى الشّمال، والشّمال وكفى، دائمًا الاتّجاه نَفْسه، فما هو ردُّكِ إذن؟ فشمّرتِ الإبرة الحادّةُ عن ساعِدَيْها، وامْتَشقَت حسَامَها، وبادرتْ بالرّد على دوّارة الهواء المغْرورة، وقالتْ: ما أَبْدَعها من حُرّية تلك التي تتشدّقين بها، ويا له من سلوكٍ هذا الذي تتباهيْن به! إنّكِ تدورين حقّا إلى اليمين أو إلى اليسار، ولكن ليس بمحض إرادتِك؛ على رِسْلِكِ يا أُختاه، إنّما الرّياحُ هي التي تحرّكُكِ، فتظلّين من ريح إلى ريح، حتى النّسيم يَفعل فعْلتَه فيك، أمّا أنا، فإنّي أحافظ بصلابة على اتّجاهي الصّحيح، وأهدي دومًا إلى السّبيل متى طلِبَ منّي ذلك، في أحلكِ الأوقات وفي أقسى الظّروف برّا وبحرًا..
ورُبَّ متسائِل يتساءَل عن القصد من هذه الحكاية الطّريفة؟ لا تَخْشَ سيِّدي القارئ الكريم قصدًا يخْفضُك، أو نيّة تُتْعِسُك، أو فكرة تؤلـمُك أو بحثًا يُشقيكَ ويُضْنيك، وإنّما أردْنا أن نرمُز بهذه الحكاية إلى أناسٍ مع كلّ ريحٍ يسيرون، وفي كلّ وَادٍ يهيمون، وحيثُما هبّتْ رياحُ المصالح الشّخصية تفاعَلوا معها، وساروا في اتّجاهِها.. فأمّا ما كان من أمْر دوّارة الهواء، فما أكْثَر الذين يعاملونَنا بمنطق وبسياسة دَوّارة الهواء، وحيثما دارت دوّارةُ المصالح، داروا معها، واعتبروا ذلك حرّيةً وسياسةً حكيمةً ومرونةً في المواقف، وتطوُّرًا في المبادئ، وتكيُّفًا ذكيا مع الأجواء، وتغيّرًا مع تغيُّر الظّروف، وكلّما هبّت ريحُ المصالح، رقصوا على مِنوالها وأبدعوا (النُّوتَة) المناسبة حتى إذا هدأَتْ، وعَرَّتْ عيوبهُم، وكشفتْ عوْراتهم، ودلّتْ على نفاقهِم، وأبرزت إلى العلنِ أكاذيبهم، وانفضَحتْ وطنيتُهم الزّائفة، عادُوا من جديد ليُسْمعونا [مَوّالاً] جديدًا، في انتظارِ ريحٍ قادمة تأخُذهم معها إلى مصالحهم، ليحقِّقوا أهدافَهم، وقد رأيتَ ماذا جنوْهُ من ثروات وأموال باهظة عندما رقصوا مع ريح [كوڤيد ــ 19]؛ وبذلك، رأيتهم كيف أَعجَبونا بالأقوال، وكيف أحبطونا بالأفعال، وكيف برعوا في التّعبير عن الرجاء، وكيف خذلونا بالأداء، وكيف تصرّفوا معنا تمامًا كما تتصرّف دوّارةُ الهواء، التي تدور فتُنتِج الخواء، وهذا ما أنتجه لنا الفاشلون في الحكومة، والجهلاء في البرلمان، والحرْبائيون في دكاكين أحزاب الذّل والهوان..
هؤلاء سياسيو دوّارة الهواء، يريدون منّا أن نكون نحن مثلهم، نَدور في الخواء، وهم الرّيحُ الهوجاء، فيطلبون منّا أن نعْزفَ على القيثارة التي تعجبهم أنغامُها، أو نردّد القصيدة الرّديئة التي تشدُّهم ترانيمُها، أو نكرّر المعَلّقات التي تسْحَرُهم قوافيها كما يفْعل إعلامُهم المضلّل، وتلفزتُهم الكذّابة، وهي تخْفي عنِ الـمُشاهِد المغربي حقائقَ صادمة، ومآسيَ تُفتّت الأكباد، وواقعًا مرّا يُدْمي الفؤاد، فيما تُثْني على الفاشلين، وتُعْلي من شأنهِم، وتُروِّج لأكاذيبهم، وتصوِّر إخفاقاتِهم نجاحات، وتجْعَل من سَرِقاتِهم إجراءات وسياسات تنموية قد تعود على الوطن بالفقر، والمرض، والجوع، وقلّة الحظّ الباسم؛ ونحن نقول لهم كلاّ، لن نكون مثلكم، دوارة الهواء، بل نريد أن نكونَ، ونبقى إبرةَ البوصَلة، لا تخون اتّجاهَها الصّحيح مهْما كانتِ الأموال والأحوال؛ نريد أن نظلّ إبرةَ البوصلة الـمُشيرة دومًا إلى أهدافها حرّا وقرّا؛ وإبْرةُ البوصَلة في صِدْقِها، وفي صرامتِها أصلَحُ وأنفَعُ من دوّارة الهواء الشّاطحة، والراقصة مع كلّ ريح والـمُتمايلة مع كل نسيم، وتلْكم سياستُكم العرجاء، ومخطّطاتُكم العوجاء؛ تلكم أحزابكم الغُثائية التي تقتات سُحْتًا من أموال أُمّة غُلبَتْ على أمرها ولكن مهما يَكن من أمْر، فدوامُ الحال من المحال.. هؤلاء مع المنافع والمصالح يكُونون وطنيين، وعندما تَنعدم المصالحُ ويغْرزُ الضِّرْعُ، وينضب حليبُه، وتَغيب زُبدتُه، يصبحون معارضين، ومنتقدين، يُشبهون إبرةَ البوصلة، حتى إذا عادت المصالح والامتيازات والمناصب عادوا إلى سياسة دوّارة الهواء، يسيرون مع ريح مصالحهم، وقد رأيتَ الواحدَ منهم كيف يتحوّل بسهولة من المعارضة إلى الـمُوالاة، وكيف ينتقل من زُمْرة الـمُوالين إلى كتْلة الـمُعارضين الذين يدافعون عن شعبٍ بعدما خذلوه بالأمس، هذه سيرةُ المنافقين عبْر العصور والأزمنة..