محمد فارس
إنه لمن علامات انحطاط السياسة في أمة من الأمم، أن يكون رجل المال والأعمال مشتغلاً بالسياسة، وزعيم حزب يتوق إلى رئاسة الحكومة، وزعيمُه يتحكم في سائر دواليب اقتصاد الدولة من تجارة، وفلاحة، وثروة بحرية، وغابوية، إلى تصدير واستيراد.. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يكلف رجل المال وصاحب الثروة بمهمّة ولا يولّيه منصبًا أبدًا طيلة حياته الشريفة، وبعد وفاته، تمّ العدول عن هذه الحكمة، ثم حصل ما حصل من مظالم كان الأصل فيها، المتعطشون للسلطة والمال والتحكم في أقوات البلاد والعباد، وكان الأصل في ذلك، سياسة أصحاب الثراء والمال، فجاءت الفتنة الكبرى، وما زالت آثارُها بادية إلى يومنا هذا بأشكال شتى.. كان [عمر بن عبد العزيز] من أوائل من أدرك قيمة وحكمة النبيّ الكريم في عدم تَعْيين أصحاب المال في مناصب المسؤولية، حيث قال: [لا تتّجِروا وأنتم ولاة، فإن المسؤول إذا اشتغل بالمال والتجارة، استأْثر، وأصاب ظلمًا، وإنْ حرِص ألاّ يَفعل]..
ويقول الفيلسوف الألماني الشهير [نيتشه] بالحرف: [إنه لمن علامة الانحطاط أن يكون رجل المال موضع هذا التعظيم في الدولة، فأفراد هذه الطبقة من رجال الأعمال عبيد أيضا، فهُم عبيد المال والثراء، وضحايا الكسب، وليس لديهم الوقت للاطلاع على الآراء الجديدة، والتفكيرُ عندهم حرام، كما أن متْعة العقل ولذّة التفكير فوق متناولهم، ووراء بلوغهم؛ وهذا هو السبب في ضعفهم في تسيير سياسة الأمة نحو الأفضل.. إن منازلهم الكبيرة ليست بيوتا، وبذْخهم بلا ذوق، وترفَهم بلا طعم، ومُتعهم تهبط بالعقل ولا تُنعشه.. يا لَتفاهتهم، إنّهم يجنون المال ويتحكمون في اقتصاد البلدان، ولا يزيدهم ذلك إلا فقرًا؛ اُنظر إليهم كيف يكبّلون أنفسهم بقيود الربح، مما يَمنعهم مما تنعم به الطبقة المفكرة من لذة التفكير، وسعَة العقل، ومتعة التأمل؛ اُنظر إليهم كيف يصعدون بسرعة كالقردة بعضهُم فوق بعض إلى أن يجذبوا البلادَ وأنفسهم إلى الهاوية والوحل.. فلا خيْر في هؤلاء الأثرياء الذين تولوا المسؤولية والذين يجمعون المال لأنّهم لا يستطيعون أن يخلعوا عليه جلالاً باستخدامه استخدامًا نبيلاً في خدمة البلاد ورعاية مصالحها]..
مات [نيتشه] سنة (1900)، وقد تحقّق ما قاله وما حذّر منه من تَولّي رجال المال المسؤوليةَ السياسية في بعض البلدان، ناهيك عن حكمة النبيِّ الكريم حين استثنى أصحاب المال والثراء من تولّي أية مسؤولية؛ وهو ما أخذ به [عمرُ بن عبد العزيز] وحذّر منه، ونهى عنه؛ لكن سنرى ما قاله فيلسوف كبير مات سنة (1981) وأعني به [ويلْ ديورَانت]، فماذا قال بخصوص السياسة التي تصبح بيد أصحاب المال والثراء في البلاد؟ قال: [… ولكن الدولة أهي من القوّة ومن التمكن الخلقي، بحيث يمكن أن تتحمل مسؤولية حفظ وتنمية ونَقل التراث من المعرفة والفضيلة والثقافة مما يكوِّن لُحْمة الحضارة وسداها؟ أمْ إن الدولة بِما لها في الوقت الحاضر من جهاز سياسي تقع آليًا في أيدي أصحاب المال والثراء الذين عندهم المعرفة والعلم لعنة، والثقافة سرّ غامض، والأخلاق مجرد أوهام، والسياسة وسيط للاستكثار واستزادة الأموال؟ لماذا صارت الأحزابُ تدارُ بأصغر الرجال من أصحاب المال والأعمال؟ لماذا صارت مناصبُ المسؤولية منحصرة في هيئات خالية من فنّ السياسة والوطنية والضمير؟ لماذا انتشرت بهؤلاء الأثرياء الذين نبتُوا في مناصب عليا، الرّشوة، والتزوير الانتخابي، حتى صارت القرارات السياسية والنّجاحات الحزبية تَخْضع لملايين الدولارات أكثر مما تخضع لملايين المصوتين؟ إن أصحاب الثروات من مسؤولين وزعماء أحزاب، ليمثلون من الخطورة بحيث تنحلّ القيم الديمقراطية، حتى إذا أصيبت الأمة بأزمة بسببهم أصبحتْ في ميزان القدر.. فإذا كانت البلادُ تبوّئُ أبناءها البررة من مفكرين، وفلاسفة، وعلماء، وطيارون يكتبون الملاحمَ والأغاني وهم في الجوّ، فماذا نحن فاعلون بهؤلاء أصحاب المال والثراء، ولنصارِح أنفُسنا: أصحابُ الثروة والمال وحدهم لا يجعلون الأمة عظيمةً، بل لعلّ ثروتهم وسياستهم تُفضي بنا إلى الخراب؛ هذا ما أكّده التاريخ، وأجمع عليه أقدم الحكماء، فماذا أنتم فاعلون يا من تحيطونهم بالقداسة والتّبجيل، وهم ألد أعداء المعرفة والتأمل والتفكير؟!]..
لقد رأينا ما آلت إليه أوضاعُنا في [المغرب] من أحوال مُزرية بسبب سياسة أصحاب المال، وكيف ضعُفت الفلاحة المعيشية، وكيف ارتفعت أثمان المحروقات رغم انخفاض ثمنها في العالم بأسره، وكيف صار السمكُ مادّة نادرة وباهظة الثمن، وكيف حقّق أصحاب المال والأعمال أرباحًا خياليةً في زمن وباء [كورونا]، وكيف تحوّلتِ الأحزابُ السياسية إلى شركات، وغُرف لأصحاب المال والأعمال، ثم ماذا تنتظر من اقتصاد بلادٍ نامية صار في قبضة يدٍ واحدة حديدية، ثم المصيبة آتية إذا ظفَر هؤلاء برئاسة حكومة، وصار وزراؤها كلهم تجّارا، ورجال أعمال، ألا يكون البلد والحالةُ هذه، قد استحال برُمته إلى مِلْكية خاصة؟ سؤال!