الشهادة التي يقدمها أي شخص، سواء كانت مكتوبة أو شفهية، تعتبر وثيقة قائمة الذات، والوثيقة لا تعني أنها “معصومة” من الخطأ، ولكنها تساهم إلى جانب قرائن أخرى في كشف الحقيقة التي يسعى الآخرون إلى طيها. شهادة ضحايا توفيق بوعشرين وصحفيين آخرين أثناء تأسيس إطار للدفاع عن ضحايا الاغتصاب الجنسي، هي وثيقة من حيث أنها صادرة عن المعنيات بالملف.
ما يهمنا في هذا الصدد هو ما صدر عن المعطي منجب بعدما تم منحه السراح المؤقت. لقد تحدث عن بوعشرين المحكوم بالسجن، وعمر الراضي المتابع حاليا وغيرهم، واعتبر أن هذه الملفات مفبركة لتوريط أصحابها، لأنهم مزعجون. وواقع الحال هو أن المعطي منجب نسي أنه لم تتم تبرئته بعد، وأن السراح المؤقت هو مجرد إجراء مسطري إذ ما زالت أطوار المحاكمة متواصلة وقد تتم إدانته أو تبرئته.
حديث منجب عن الآخرين الغرض منه خلط الأوراق في ملفه الشخصي، حتى إذا ما تأكدت التهم الموجهة إليه سيقول إني قلت لكم إنهم يفبركون ملفات المعارضين، بمعنى لست وحدي، ولقد رأيناه يدافع عن المتهم بالمشاركة في القتل عبد العالي حامي الدين، وكل ذلك بغرض واحد: خلط الأوراق.
لكن ما لم يكن في حسبان المغالط أن ما تريد أن تحتج به على الناس قد ينقلب عليك. ربما كانت القضية بدأت الدخول في النسيان غير أنه نكأ الجرح الغائر، وأيقظ آلام الضحايا وعائلاتهن، وكم من قضايا التاريخ التي كادت تندثر فيوقظها حادث مدمر.
الضحايا اليوم يقولون إن الأمر لا يتعلق بحرية التعبير أو غيرها وهذا لا يهمنا. ولكن المهم لديهن هو التعذيب النفسي الوحشي الذي مورس ويمارس عليهن. ليس من السهل أن تتحدث ضحية اغتصاب جنسي، في مجتمع ذكوري وثقافة محافظة، بوجه مكشوف، ومنهن صاحبات بيوت وأسر. مجرد خروجهن إلى العلن والحديث أمام الكاميرا يعني أن “السكين وصلت إلى العظم”.
كثير من القضايا النفسية يتم علاجها عبر هذا النوع من التحدي والمواجهة، إذ ليس لدى المغتصبة ما تستحيي عنه، فهل هي اختارت ذلك؟ ولا يستشكل علينا المؤرخ، الذي قام بتزوير أحداث ووقائع كان قريبا منها ومنها قضية أيت الجيد محمد بنعيسى، الذي اغتالته الجماعات الإسلامية بداية التسعينات، بالقول: لماذا سكتن كل ذلك الوقت قبل اعتقاله تم لماذا سكتن بعد الحكم عليه؟
لن ننوب عن أية واحدة في الجواب عن هذه الأسئلة، وحدهن قادرات على ذلك، لكن من حقنا أن نتصرف فيما نملك ألا وهو الفهم والتأويل، حتى نصل إلى المعنى، فالقضية قد تعود إلى أنواع شتى من الاضطهاد والابتزاز التي تمارس بوسائل “ناعمة” وهي كثيرة جدا خصوصا من “باطرون” كان يتحدى ضحاياه في أرسهم وأرزاقهم كما لا يمكن حصر وسائل الاضطهاد في شكل من الأشكال.
القضية بالنسبة للضحايا هي آلام نفسية وجسدية قبلها، وبالتالي لا يمكن ربطها بحرية التعبير أو تصفية حسابات كما يزعم المعطي.