في زمنٍ تتسارع فيه التقنيات وتتراجع فيه الأسئلة الكبرى، اختارت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) أن تستدعي من عمق التاريخ صوتًا لا يزال صداه حاضرًا في الفكر الإنساني.
فقد أطلقت المنظمة مؤخرًا إصدارًا علميًا جديدًا بعنوان “الفارابي وإسهاماته عبر التاريخ الإنساني”، في خطوة تحمل أبعادًا معرفية ورمزية تتجاوز مجرد التوثيق الأكاديمي.
الحفل، الذي احتضنه مقر المنظمة في الرباط على هامش الدورة السادسة لمنتدى رؤساء جامعات العالم الإسلامي، لم يكن مناسبةً بروتوكولية عابرة، بل لحظة استعادة لذاكرة فكرية طالها النسيان في زحمة الحاضر.
الكتاب، الذي ساهم في تأليفه 25 باحثًا من أقطار مختلفة من العالم الإسلامي، يبحر في عوالم الفارابي، الفيلسوف الذي زاوج بين المنطق والموسيقى، بين السياسة والفن، وقدم للعالم الإسلامي، بل وللعالم بأسره، نموذجًا فريدًا للمثقف الموسوعي.
المدير العام للإيسيسكو، الدكتور سالم بن محمد المالك، رأى في هذا العمل دعوة صريحة لإعادة الاعتبار للفلسفة الإسلامية، بوصفها أحد أعمدة الحضارة الإنسانية.
وفي كلمته خلال الحفل، شدد على أن الفارابي ليس مجرد شخصية تاريخية، بل نموذج للعقل الفاعل الذي يبحث عن الحقيقة في كل شيء، ويدمج المعرفة بالحكمة، والبحث بالتأمل.
وأشار المالك إلى أن فصول الكتاب الأربعة حاولت سبر أغوار فكر الفارابي من زوايا متعددة، بدءًا من نظرياته السياسية إلى فلسفته في الموسيقى، مشددًا على أهمية هذا الإصدار كجزء من مشروع أكبر لإحياء تراث المفكرين المسلمين، وإعادة ربطه بالأسئلة الراهنة التي يطرحها العصر.
الحضور الكازاخي كان لافتًا في هذا الحدث، نظرًا لارتباط الفارابي الوثيق بتاريخ كازاخستان، حيث رأى النور في مدينة “فاراب”.
السفيرة الكازاخية لدى الرباط، سوليكول سيلوكيزي، اعتبرت أن هذا العمل يأتي كتتويج لجهود مشتركة تهدف إلى تخليد إرث هذا المفكر العظيم، الذي أسهم في إثراء التراث الروحي للإنسانية.
من جهته، اعتبر جانسيت تويميباييف، رئيس جامعة الفارابي الوطنية بكازاخستان، أن هذا الكتاب هو ثمرة تعاون دولي حقيقي، ورسالة واضحة بأن الفكر لا تحدّه الجغرافيا ولا يحكمه الزمن.
هذا الإصدار، كما ورد في بلاغ المنظمة، لم يأت من فراغ، بل هو إحدى ثمار المؤتمر الدولي حول علماء العالم الإسلامي الذي عقدته الإيسيسكو في أكتوبر 2023، بشراكة مع وزارة خارجية كازاخستان وجامعة الفارابي. المؤتمر أوصى بضرورة نشر وتثمين الإرث العلمي لرموز الفكر الإسلامي، وهو ما تترجمه هذه المبادرة عملاً لا قولًا.
في زمن العولمة والاضطراب المعرفي، تستعيد إيسيسكو عبر هذا العمل وجهًا مضيئًا من وجوه الفكر الإسلامي، وتوجه رسالة ضمنية مفادها أن العودة إلى الجذور لا تعني الانغلاق، بل البحث عن بوصلات فكرية تقود المستقبل.