محمد عفري
النتائج المبهرة التي حققها المنتخب الوطني لكرة القدم في مونديال 2022 بقطر، تستدعي وقفة تأمل كبيرة لإعادة النظر في خارطة منظومة الكرة الوطنية بتبصر.
وقت طويل تم هدره، وأموال طائلة تم صرفها، ومجهودات جبارة تم بذلها خلال خمسة عقود، دون تحقيق ما تم تحقيقه في مونديال قطر، الذي سيسدل ستاره نهاية الأسبوع الجاري، بإجراء مباراتي الترتيب والنهائي، مع بلوغ المنتخب الوطني، في سابقة هي الأولى بتاريخ الكرة الإفريقية والعربية؛ درجة رفيعة ضمن الأربعة الأقوياء، بعد خروج ثمانية وعشرين منتخبا آخر تنتمي إلى القارات الخمس، لا يستهان بها قيمة وقوة، في دائرة التنافس العالمي الشرس، حول كأس تم تصميمها لتزن مقدارا من حوالي أربعة كيلوغرامات من الذهب الخالص بعيار 18 قيراطا..
من الواضح أنه ما كان علينا أن ننتظر طوال مسار يمتد إلى اثنتين وخمسين سنة ويتسع لخمس مشاركات في بطولات العالم، أدركناها بالكاد من أجل المشاركة وتمثيل الوطن، خير تمثيل وكفى الله المؤمنين شر القتال، لتكون سادسة هذه المشاركات مخالفة واستثنائية وإيجابية، وليس للحظ فيها من شيء غير أنها نظمت بدولة عربية، لعبت “سلاسة” ولوج الجمهور المغربي إليها دور المحفز والداعم بشكل غير مسبوق أيضا..
نعم! ما كان علينا، منذ 1970، أن نستنزف كل هذه الأموال والمجهودات لحساب الأطر التقنية الأجنبية وبرامج تطوير لعبة الكرة ومحاولات تطويعها في الفرق والأندية والمنتخبات العمرية والإدارات التقنية، لنقف عند الباب المسدود؛ من أجل منتخب وطني ظلت عجلته تتوقف عند عقبة أضعف المنتخبات الأوروبية؛ لولا أن أتانا “جريء” اسمه وليد الركراكي، لسان حاله يقول لنا “ما هكذا تؤكل اللقمة يا إخواني”، ويلخص لنا طريق التألق العالمي في ثلاثة مفاهيم؛ أولها وضع الثقة في أنفسنا وفي بعضنا البعض، وثانيها حُسن النية بمفهوم الأمل في النجاح مع الطموح الجامح إليه، وثالثها حُسن التواصل المجدي..
لقد دحض وليد الركراكي عقدة الكفاءة المكتسبة لدى مدرب كرة القدم الأجنبي و”الغربي” بالخصوص، وأكد أن نظيره المغربي يتساوى معه في هذه الكفاءة ويتعداها؛ شريطة وضع الثقة فيه وتمتيعه بالحد الأدنى من الإمكانيات والظروف التي تُقدم لهذا الأجنبي؛ مادام التحصيل المعرفي بكرة القدم واحدا، وأساليب ممارستها وقوانينها موحدة..
الركراكي لينجح ويتألق؛ ومعه طبعا كل لاعبي المنتخب المغربي في المونديال القطري؛ دحض أيضا مفهوم علاقة الأستاذ بالتلميذ التي تتكرس في الفريق والنادي والمنتخب الوطني، من خلال علاقة المدرب باللاعب. لقد نزل من برج صرامة الأستاذ إلى المكانة الزهيدة للأب والأخ داخل الأسرة، ليطوق كل عناصر المنتخب الوطني بدفء هذه الأسرة وحنانها والتواصل معها بنفس اللغة ونفس الأفكار، وسلاحه في ذلك تقاربه مع هذه العناصر في السن وإحاطته بكل مستجدات التواصل في عالم “رقمي” بامتياز. فكانت النتيجة؛ الثقة المتبادلة لدى كل مكونات هذه الأسرة، وبالتالي الطموح المشترك للسير إلى أبعد حد ممكن في منافسات المونديال وتحقيق حلم مشروع..
ما كان لأي مدرب أجنبي أو محلي أن يزيح جبالا من الضغوط النفسية والسيكولوجية على اللاعبين لينزل بها على نفسه ويريحهم من تداعياتها مثلما فعل الركراكي وهو يؤكد قبل ضربة البداية؛ أنه فعلا “راس آفوكا”، جاعلا من اللاعبين موطنا للتشجيع والتحميس والتحفيز من أجل التألق محيلا الجمهور المغربي والإفريقي والعربي كافة إلى تحميله المسؤولية لوحده في حالة الإخفاق..
ما كان لأي مدرب أن يعيد، مثلا، المبدع حكيم زياش إلى سكة التوهج والعطاء المدرار بالملعب، وهو الذي آثر أن يعتزل من صرامة التعامل على أن يتمم المسار؛ لولا حس الركراكي وذكاء الركراكي، والأمثلة كثيرة مما فعله الركراكي لتتوهج الكرة الوطنية في محفل من قيمة بطولة العالم..
ما كان لأي مدرب أن يعزف في هذه التظاهرة على الوتر الحساس للاعبين، بالعمل على استقدام أمهاتهم وآبائهم إلى قطر لتأثيث مدرجات ملاعب التنافس.. إنه صاحب فكرة هذا الدفء التي نفذتها الجامعة وكان النجاح فيها من نجاح باقي القيم التي أثثت فعاليات المونديال القطري وانبهرت على إثرها كل المنتخبات ودولها.
في الندوات الصحافية للمدربين قبل المباريات وبعدها، كان الركراكي أيضا في الموعد متألقا، واضحا فاضحا.
إضافة إلى الرسائل التقنية ورسائل التسيير والتدبير المرجوة في مسيري الفرق والأندية المغربية التي وجهها الركراكي، من أجل تطوير كرة القدم الوطنية انطلاقا من البطولة الوطنية، قدم رسائل “فاضحة” إلى الإعلام الرياضي، بالخصوص، من أجل إعادة النظر فيه؛ بعدما كشف”هشاشة” المنتسبين إليه من خلال الأسئلة المقرفة التي وجهها بعض “الصحافيين الموفدين”؛ وكان الرد عليها صاعقا من الركراكي الذي رفع سقف كرة القدم الوطنية في كل المناحي..