بقلم موسى فافي بن محمد الفيجيجي السليماني
فجيج باب المغرب
واحة فجيج الآن تعيش آخر الارتدادات والرجات العنيفة والمخلفات الكارثية لمعاهدة لالة مغنية 18 مارس 1845، فليس من غريب الصدف أن يطلب الجيش الجزائري من ملاكي الأراضي الفلاحية بمنطقة العرجة المتواجدة شمال واحة فجيج ومحذرة إياهم بالانسحاب من ضيعاتهم دون رجعة وفي أجل أقصاه 18 مارس 2021، فكما تلاحظون أن سيميائية الزمان حاضرة هذه المرة كذلك لدى جنيرالات الجزائر في ردة فعلها ضد المغرب وكما عهدناها من قبل، فكلما عطست الصحراء إلا وأصيبت فجيج بالزكام، وذلك في اختيار التوقيت المناسب لاستفزاز المغرب مرة أخرى وفجيج على الخصوص، فهي تذكرنا أنها بصدد إسدال الستار على آخر فصول المشاهد الدرامية في المسلسل الذي كان عنوانه توسيع الأراضي الجزائرية على حساب الأراضي المغربية والذي بدأ مند توقيع معاهدة لالة مغنية إبان الفترة الاستعمارية للجزائر من طرف فرنسا، وكان من أبرز تطوراتها ونتائجها هو سلخ واحة فجيج عن واحات الجنوب الشرقي وفك الارتباط فيما بينها، ووضع حد لمرحلة الازدهار الاقتصادي والاشعاع الثقافي للواحة ومحاصرتها من كل جانب، وهذا كان نتيجة لمواقف سكان أهل فجيج الذين وقفوا حجرة عثرة ضد الاحتلال الفرنسي في مشروعهم التوسعي على حساب الأراضي المغربية.
وللتذكير فقد كان لمعاهدة لالة مغنية أثر كبير فيما بعد في حرمان مدينة فجيج من مجالات زراعية ورعوية واسعة كانت في ملك السكان المحليين ورثوها أبا عن جد منذ قرون خلت، ومنها الملياس ، تاغيت، أمغرور، تاغلة، تاسرة، تامزوغت، واد زوزفانة، إلى غير ذلك من المناطق الأخرى، وأخيرا منطقة العرجة التي تتموقع شمال الواحة، فهي من أقدم فضاءات الواحة التي عرفت الاستقرار السكاني وغراسة النخيل من طرف قبيلة لودارنة وهي من القبائل الأولى التي سكنت واحة فجيج وبالأخص في العرجة والملياس ، وبعد انصهار هذه القبيلة مع قبيلة أولاد اسليمان أصبحوا يشكلون قصرا واحدا ويتوفرون الآن على النصيب الأوفر من الأرض والنخيل في هذه المنطقة، وإلى جانبهم إخوانهم من قصر لوداغير وقبيلة لعمور.
إن عدم ترسيم الحدود بين المغرب والجزائر بشكل دقيق وهذا طبقا للشرط الرابع من معاهدة لالة مغنية وهذا نصها ” إن الأرض التي هي قبلة قصور الفريقين في الصحراء لا ماء فيها فلا تحتاج للتحديد لكونها ارض فلاة” قد أدى إلى نشوب الخلافات الحدودية بين السكان المحليين الذين يرفضون سياسة الأمر الواقع، وخاصة الذين انتزعت منهم أراضيهم فيما مضى، وبين الجزائر التي تدعي أن لها حق على الأراضي المغربية، ولا ننسى أن فرنسا قد تعمدت غموض بنود اتفاقية مغنية حتى يتسنى لها بسط نفوذها على الجنوب الشرقي لتوسيع الأراضي الجزائرية على حساب الأراضي المغربية.
وجدير بالذكر أن معاهدة 15 يونيو 1972 المنشورة بالجريدة الرسمية عدد 4156 بتاريخ 24 يونيو 1992،الخاصة بترسيم الحدود بين المغرب والجزائر كان يكتنفها الغموض في الشق المتعلق بالحدود بين واحة فجيج والجزائر، خاصة أن الاتفاقية تضمنت عبار ة الواد غير المسمى في تحديد الحدود ،وهذا هو نص الاتفاقية” ” وتسير عبر خط القمم مارة بالنقط المرقومة 1544، 1026 (جبل ملياس) و تمر بعد ذلك بخط القمم على المرتفعات التي تفصل واحات بني ونيف وفجيج، مجتنبة منطقة الكثبان الرملية شرق هذه القرية مارة بالواد غير المسمى حتى التقائها بواد حلوف، تابعة هذا الواد شمالا حتى رأس بني سمير”
إذا عبارة الواد غير المسمى هو شبيه بعبارة الأرض الفلاة التي وردت في معاهدة لالة مغنية، فهي تحتمل أكثر من تفسير وتأويل، فإذا كان المقصود حسب المعاهدة بالواد غير المسمى هو واد العرجة، أيعقل أن يتجرأ بعد ذلك أهل فجيج وخاصة من قصر أولاد سليمان الذين لهم ارتباط بالعرجة منذ قرون أن يغامروا باستثمار وقتهم وجهدهم وأموالهم في هذا المكان الذي لم يعد في ملكيتهم بموجب هذه المعاهدة؟ لا والله ثم لا، فهم مقتنعون أشد الاقتناع أنهم يعملون في أرض أجدادهم ورثوها أبا عن جد ويتوفرون على رسوم الملكية ولا ينازعهم فيها أحد، ولو كان الأمر كذلك فلماذا هذا السكوت من طرف السلطات المختصة ومند ما يقارب نصف القرن دون أن توجه لهم إنذار أو تحذير بعواقب الاستغلال في تلك المنطقة، لكونها لم تعد أرض مغربية. فمن يتحمل المسؤولية إذا في هذه النازلة؟
وبصفتي إبن المنطقة، ترعرع بين قصورها وجبالها وهضابها وسهولها ووديانها، وله كذلك قسمة من الأرض والنخيل في منطقة العرجة، وملم بخبايا تضاريسها، أن الواد غير المسمى المذكور في المعاهدة هو الواد الذي يأتي بعد “جبل العرجة” “وثنية بنسعيد” “وثنية الطراد” وهو معروف عند رواد المنطقة بواد “السدرة” وهو الذي يلتقي مباشرة بواد الحلوف الذي يأتي من الشمال، وللتوضيح ورفع اللبس أن واد العرجة لا يلتقي مباشرة بواد الحلوف بل يلتقي بواد “تسرفين” الذي يلتقي هو الآخر بواد “ادفيلية “ويأتي منبعه من الغرب.
أما أن يكون الواد غير المسمى هو واد العرجة، فهذا إما جهل بمعالم المنطقة وتضاريسها، وإما تحريف وتزييف للحقيقة، بحيث أن كل الخرائط الطبوغرافية القديمة لواحة فجيج كان التوطين حاضرا ومحددا لمسار واد العرجة ومكتوب عليه إسم (Oued El Ardja) .ولنفرض جدلا أن المعاهدة كانت منطقية في اتخاذ قمم الجبال كحد فاصل بيننا وبين الجزائر، فلماذا تم استثناء جبل العرجة كحد فاصل كذلك بيننا وبين الجزائر؟ كما أن واد العرجة في حد ذاته لا يمكن اتخاذه كمعلم في ترسيم الحدود لأن هذا الوادي قد عرف مجموعة من التحولات في حجمه وفي اتخاذ مساره، وعلى ما يحكيه لنا آباؤنا أن هذا الوادي في بداياته كان محاذيا لجبل العرجة، ومع مرور الزمن أصبح يتخذ أشكالا واتجاهات متفرعة وينحرف من الشمال نحو الجنوب، كما لا ننسى أن المعاهدة عقدت لمدة تقارب نصف قرن من الزمن ولم يتم وضع النصب (BORNES ( على الحدود، فهذه المدة كافية لحدوث تغيرات جدرية بفعل عوامل التعرية ،وإذا كان الوادي هو الفاصل في المعاهدة فكيف سيتم اقتسام هذا الواد بين الطرفين مع العلم أن لديه تفرعات كثيرة “شعبات”
مهما يكن الأمر نحن نعلم جيدا أنه إلى حدود الساعة لم يتم ترسيم الحدود بين فجيج والجزائر بشكل نهائي طبقا للمادة الثالثة من معاهدة 15 يونيو 1972، والتي تقول ” تحدث لجنة مشتركة جزائرية مغربية لمباشرة وضع المعالم الحجرية للحدود الجزائرية المغربية الموصوفة في المادة الأولى”. وقبل فوات الأوان نريد من الجهات المختصة أن تعطينا توضيحا شافيا ومقنعا للواد غير المسمى المذكور في الاتفاقية، وكما يعلم الجميع من ذوي الاختصاص أن واحة فجيج من الواحات المغربية الضاربة في القدم ، فكل التضاريس التي تحيط بالواحة من أنهار ووديان وجبال وتلال وفضاءات إلا وتحتوي على أسمائها الخاصة ونجدها مدونة و موطنة في الخرائط الطبوغرافية التي أنجزتها فرنسا خلال الفترة الاستعمارية.
إن تحديد 18 مارس 2021 كآخر أجل للنزوح وإخلاء منطقة العرجة، سيحدث تدمرا واسعا لدى ساكنة واحة فجيج قاطبة سواء في الداخل أو في الخارج الذين يحبون وطنهم وملكهم ولا يقبلون المساس بوحدتهم الترابية ، فأهل فجيج مجندين وراء صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في الدفاع عن حوزة الوطن، وعدم التخلي عن شبر منها، أو التفريط في حبة من رملها، وهنا تجدر الاشارة إلى الوشائج المتينة والروابط العميقة التي كانت بين أهل فجيج وسلاطين المغرب عبر التاريخ وهذا يظهر جليا من خلال ظهائر التوقير والاحترام الشريفة التي كان يحظى بها علماء وصلحاء أهل فجيج ، وكذا الظهائر التي كانت موجهة لأعيان ووجهاء الجماعات السلالية لقصور الواحة، ناهيك عن مراسلات تجديد البيعة والولاء وتعلق أهل فجيج بأهداب العرش العلوي المجيد.
فهم الآن في أمس الحاجة لمن يحميهم ويرد الأذى عنهم، ويقدر ظروفهم العصيبة التي يمرون بها،ويعطف عليهم ويعوضهم بما فقدوه وسيفقدوه مستقبلا، فهم الآن كالمهاجرين الذين خلفوا أموالهم وديارهم وراءهم كاظمين للغيض، فأين هم الأنصار إذا؟ فعلى الدولة الآن والجهات المسؤولة أن تكون في مستوى اللحظة التاريخية في أداء الواجب وما يجب، فمدينة فجيج قد أدت ولازالت تؤدي ضرائب الوطنية الصادقة التي لا لبس ولا غموض فيها، سواء خلال الفترة الاستعمارية، أو بعد الاستقلال وخاصة مع جار السوء الذي ابتلانا الله به، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
ويجب أن يعلم الجميع أنه لا يمكن الحديث عن مدينة فجيج دون الحديث عن النخيل في هذه الواحة الذي لم يكن مجرد مورد اقتصادي محايد، أو جزء من تلوينات الخريطة الطبيعية، أو مجرد مساحات خضراء تضفي بعدا جماليا على المدينة وتمنحها منظرا أخاذا، إنه أكثر من ذلك فهو مكون أساسي من مكونات الشخصية الفجيجية.
ورغم كل صروف الدهر وعاديات الزمان فإن العلاقة بين الانسان الفجيجي والنخلة لم تتصدع أبدا واستطاع الحفاظ عليها كرمز ثقافي، ومورد اقتصادي، وكان كلما أرسلت جذورها في الأرض كلما انغرس فيها وتشبث بها أكثر، وعبر تاريخها الطويل كانت الواحة وماتزال جزءا لا يتجزأ من رباعية الانسان والنخلة والسهل والهضبة، التي شكلت المعالم البارزة لهذه الواحة العريقة، التي عرفت توازنا في مختلف المجالات ضمن ظروف طبيعية هشة، مثل سنوات الجفاف التي ضربت البلاد، وغيرت معالم الخريطة الديموغرافية والاقتصادية، وبنية معرضة للإختلال في أي وقت.
إلا أنها لم تستطع التأثير على صدق الارتباط بين الانسان الفجيجي والنخيل ولم تتمكن من زعزعة ثقته فيه، وظل يكافح ويجاهد بفضل تلك العلاقة الحميمية لتحتفظ بذلك المدينة بطابعها الواحاتي واكتسبت شهرتها الذائعة والجودة العالية لتمورها. فكيف يعقل الآن بعد سنوات من الكد والعناء في غرس آلاف النخيل بأنواعها في منطقة العرجة، وبمجهودات ذاتية في حفظها ورعايتها، وبعدما بدأت تؤتي أكلها بإذن ربها، يأتي القرار المستفز على حين غرة بإفراغ المنطقة بأكملها، وإلا سيتم اعتقال من وجد فيها،يا ألله، فهذه مصيبة عظمى حلت بواحتنا فهل من مغيث، ولسان حال المتضررين يقول ياليتنا كنا نسيا منسيا.
وأختم مقالي هذا بمقتطف مما قاله فقيه مدينة فجيج الأجل، محمد بن أحمد الراشدي الودغيري للسلطان المولى عبد العزيز رحمه الله في رسالة تظلم أهل فجيج من تعدي الجيش الفرنسي سنة 1895 والذين كانوا واعين بسياسة التوسع لدى الفرنسيين في المنطقة وقابلوا ذلك بالرفض التام:
“… ولا تغترر سيدنا بمن يعلل لك أن الصحراء ضعيفة، ولا تقوم بالعسكر ولا بالخليفة، فالأمر بخلافه، إذ هي وسط بلادنا سيدنا، فإذا استولى عليها العدو انكسر باب المغرب، ومد يده إلى غرب المغرب(…) فكيف بفجيج وحواليه ذو عيون وأنهار، وفضاء واسع وأشجار، وصوامع ومساجد يدرس فيها العلم ويقرأ القرآن آناء الليل وأطراف النهار، فالتفت إليه وحصنه من العدو واجعله في صحيفتك، فلست بعاجز فتعذر ولا بخاف عنك الأمر فتسمع…”
فما أشبه اليوم بالبارحة، وها نحن اليوم أهل فجيج عامة وقبيلة قصر أولاد اسليمان خاصة نستنجد بالسدة العالية بالله أمير المؤمنين صاحب الجلالة محمد السادس حفظه الله من تعدي الجارة الجزائر على أراضي فجيج المباركة في منطقة العرجة واستباحتها ، والتي هي جزء لا تتجزأ من أراضي المغرب ،فالتفت إليها وحصنها من كل سوء ومكروه واجبر كسر المظلومين والمطرودين منها، ورد كيد الكائدين في نحورهم، والله غالب على أمره وهو خير حفظا وهو أرحم الراحمين.
