محمد فارس
في تحدٍّ ظاهر، قالت زوجتي: هل تستطيع أن تَستخرج من التاريخ ما يتعرض له شخص رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وما يُعانيه المسلمون اليوم في [فرنسا]؟ لم أجبْ على سؤالها، وقَضت الليلة نائمة وقضيتُ الليلة أبحث في المراجع بهدف رفْع التّحدي فحالفني التّوفيق بعْد جهدٍ جهيد، وبحْث مُضنٍ بيْن أمواج الكتب والمراجع، وأَصْعب ما كان في هذا التحدي، هو أنّي كنتُ أبحث عن مؤرّخ غربي، وغَضضْتُ الطّرف عن المؤرّخين المسلمين كابن الأثير مثلا حتى لا يقال إنّ المؤرّخ المسْلم مُتحيِّز لدينه، ونبيِّه، وبَني جِلْدتِه، ثمّ إنّ الحقّ ما شهِدت به الأعداء.. لكن يجب أن أُلفتَ انتباه القراء الأماجد بأنّي لستُ من القائلين إنّ التاريخ يعيد نفسَه؛ نعَم، إنّ الحوادث التاريخية تتكرَّر، وتتشابه، ولكن إعادة الحوادث غيْر إعادة المراحل في حياة الجماعات أو في حياة الآحاد؛ فإنّه لا يتّفِق أن يعودَ الإنسانُ مثلاً إلى مرحلة الرّضاع بعد مرحلة التّسنن، أو إلى مرحلة الـمُراهقة بعد اكتمال الشّباب، أو إلى مرحلة الفتوّة بعد وهنِ المشِيب، فإنّما يعيد التاريخُ حوادثه، ولا يعيد مراحلَه؛ لذا فالتاريخُ لا يعيد نفسَه ولكنّه يعيد أحداثَه فقط، فهل أعاد التاريخُ أحداثًا سَبَق وأن عرفَها؟ هل عانى المسلمون بالأمس ممّا يُعانونه الآن في [فرنسا]؟ هل تعَرض شخصُ النّبي الكريم بالأمس لِـما يتعرض له اليوم من إساءة وشتائم وسُخرية مسيئة؟ الجواب: نعم!
في سنة (837) ميلادية، وبتَحريض من [لويس] ملك [فرنسا]، ثار مسيحيو (ماردة)، اشتَرك فيها المسيحيون واليهود في [الأندلس]؛ وفي أواخر حُكْم [عبد الرحمان]، اشتدّ تعصُّب النّصارى في [قرطبة] إلى درجة خطيرة، فتَعرض المسيحيون المستعربون لِكراهية إخوانهم المتعصّبين الذين اتّهموهم بالكفر، والضّلال؛ ويقول المؤرّخ [دوزي] وهو مسيحي: [كان هؤلاء يَبْغضون المسلمين بُغضًا غَرزيًا، وقَنعوا بتصديق كلّ تلك الخرافات السّخيفة التي كانوا يردّدونها ويَرْوُونها عن (نبِيّ مكّة)، بل كانوا يكْرهون كرهًا شديدًا رقّة الجنس العربي، وكانوا يبغضون دين المسلمين، وعاداتهم الأخلاقية الـمَصقولة، فتحوّل حماسهُم إلى هياج وشَغب، واستحالوا إلى لصوص وسفّاكين، وفي العاصمة إلى شُهداءَ وقِدّيسين، وجاهَروا بالاجتراء على مقام النّبي العربي ودينه، ودخَلوا الجوامع في أثناء الصّلاة، ورَفعوا عقيرتَهم بتلك الشّتائم الـمُنكرة، وعبثوا بدين الإسلام، ورموْهُ بشتى النّعوت، وقد أَصْدر الأساقفة قرارًا بتحريم الـمُجاهرة بسبّ النّبي [محمد]، ولكن شيئًا من هذا لم يَنفع، ولم يَرتَدِعوا..]..
في سنة (1492) استولى القشتاليون على [غرناطة]، وفي الواقع، كانت ساعةُ شُؤْم، تلك التي حلَّ فيها الصّليبُ محلّ الهِلال على الأبراج.. سار [أبو عبد الله] مع أُسرته إلى (البكْراس) حيث كان ينوي الإقامة، ولـمّا وصل إلى جبال (بَادول) ألقى نظرةً أخيرةً على [غرناطة] وبَكى، فقالت له أُمُّه: [أجل، اِبْكِ كالنّساء مُلكًا مُضاعًا، لم تحافِظ عليه مِثل الرّجال].. وعاش مدّةً قصيرةً في (أندارة)، ولكنّ [فيرديناند] كان يَعتبر وُجودَه في [إسبانيا] خطرًا على سيادة [قشتالة] فنفاه إلى [إفريقية]، وعندئذٍ، قصد [أبو عبد الله] إلى [فاس] وأقام فيها حتى مات سنة (1538) ميلادية.. ومع [فيرديناند] وزوجتِه [إيزابيلاّ] ابتدأتْ مأساةُ المسلمين، إليْكَها في هذه السطور مع إيجاز بالغ.. لم يكُن في نيّة [فيرديناند] الصّالح، و[إيزابيلاّ] الورِعَة التّقيد بشروط التسليم التي عقَداها مع المسلمين الذين تذكّروا تَحذيرَ بطلهم الضّائع [موسى] عندما قال لهم في المسجد: [إنّ الموتَ في ساحة الوغى أعذَب من الإهانة والتّحقير والنّهب وتدنيس الجوامع، سيَكون مصيرُنا الاضطهادَ والظّلم، لأنّ الأعداءَ آلوا على أنفُسهم أن يَسْتأصِلوا شَأْفَنا]؛ ولما رأى [موسى] أنّ كلماتِه لم تُؤثر في قومه، ألقى نظرةَ احتقارٍ عليهم وخَرجَ وتحقّق ما تنبّأَ به، فرأوا ما حلّ باليهود؛ وفي سنة (1492) أصدَر [فيرديناند] الذي كان يخفي مثْله مثْل [ماكرون] اليوم في [فرنسا] الخديعةَ والغدر وبُغْضَ الإسلام والمسلمين تحت رِداء الدّين، ويغْدِق الوعود من حيث لا يَنوي احترامها، فأصْدر مرسومًا يَقضي إمّا بِتَخلّي المسلمين عن دينهم أو مغادرة البلاد..
ثم ماذا؟ شرع في تعذيبهم، وحَرْقهم، أو نَفْيهم، فلقي المسلمون على يديْه الذّل والأذى، وحَظر عليهم تأدية شعائرِهم الدّينية، وأكْرهَ الكثيرينَ منهم على التّنَصر، وهكذا، أحْدث غدْر [القشْتاليين] استياء عظيمًا بيْن الأهالي المسْلمين.. وفي سنة (1498) تعَرض المسلمون لاضطهادٍ عام، إذْ خُيِّروا بَيْن التّنَصر والإعدام، فخضَع البعض، ولكن الكثْرة تمسّكت بدينها، فكانوا يؤدّون صلواتهِم سِرّا، وقد نَسف القشتاليون المساجدَ كما أقْفَلها [ماكرون] في [فرنسا].. كانت أقلّ أَمارة من أمارات الإسلام تَبْدو على أيِّ مسْلم، تُعرِّضُه لِعقاب (ديوان التّحقيق)؛ وهكذا يريد [ماكرون] من كلّ مسلم أن يعبِّر بلباسه، وأخلاقِه، وسلوكِه عنِ (العَلمانية الفرنسية).. وفي سة (1568) ازدادت أوضاعُ المسلمين سوءًا، بوصول الملِك [فيليب الثّاني] إلى العرش، وكان مُتهوسا ومجنونا، فأصدَر مرسومًا يَقضي على العَرب بالتّخلي عن لغتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم في يوم واحد، وأَجْبرهم بالتّسمي بأسماء إسبانية، وهو ما يَهدف إليه اليوم [ماكرون] الذي يُجْبِر الدّول التي تُسمّى [الدّول الفرانكوفونية] باعتماد اللّغة الفرنسية، فيما فرنسيون يقومون بأبحاثهم باللّغة الإنجليزية بعْد تراجُع الفرنسية، إلى جانب مُضايقَة باعَة [حَلال] تمامًا كما فعلَ [فيرديناند] مع المسلمين في [إسبانيا].. فإذا كان [فيرديناند] مُفْعمًا بفكرٍ صَليبي مَقيت، فإنّ [ماكرون] مشحونٌ بإيديولوجيا صُهيونية بغيضة، وقد رأيتَه يحذِّر من رَبْطِ الصّهيونية و[إسرائيل] بالاستعمار، وقد وعَد بإصدار قانون يَمنع انتقادَ الصّهيونية، لكن مُهاجَمة الإسلام ونَبيِّه فهي حُرية تعبير، وتَبّا لها من حُرّية!