محمد فارس
إنّ التطرف الديني يولِّد كلّ أشكال العنف، وصولاً للإرهاب، وإذ تَحوَّل الإرهابُ الإسلاميُ إلى حربٍ شاملة على الحضارة، وعلى الشّعوب، فذاك يُبشّع صورةَ المسلمين في العالم، ويقول الباحثون إنّ التّطرفَ الذي يَشهده العالم، لم يخلقْ من عدم، بمعنى أنه لم يبدأ من الصّفر، فهو يكتسِبُ وجودَه من حيث انتهى الآخرون، فهو نتاجٌ لمجموعة مكوّنات، وحزمة التّأثيرات المكوِّنة للأفراد والجماعات على المستوى التّاريخي والثّقافي والعقائدي، بمعنى أنّ هناك عقائدَ، ولنقُلْ (مذاهب) إذا أَردنا أن نُسمِّي الأشياءَ بأسمائها، مؤهّلة أكثر من غيْرِها لإنتاج التّطرف؛ يكفي أن تُطلّ إطلالةً سريعةً على الفتاوى الصّادرة من شيوخ التّطرّف، وكيف تبيح قتْل الآخر المختلِف مذهبيًا وإنْ كان مُتّحِدًا إسلاميًا، وكيف ترفض التعاملَ معه تحت عنوان واحد، هذه الأرضيةُ تدفع بالتّطرف والإرهاب إلى أقصى مداه حين يكون القتلُ والغدرُ [واجبا دينيا]؛ هذا يعطي المبرّرَ المادّي لاتّهام الإسلام ككلّ بالتّطرفّ والإرهاب؛ ومع هذا المناخ، تساهم مجموعة المسلّمات الفكرية والتّاريخية الجاهزة لصناعة إرهابيين يجدون في منظومة العقائد ما يبيح لهم هذا الإرهاب، وقد يجدون في التّاريخ ما يُقلّدونه من إرهاب أفراد وَلَّوا وماتوا، ومع ذلك يُقلّد إرهابُهم باعتباره مَفاخِرَ تُذْكَر لهم وتُرفَع من قَدْرِهم..
تطرّف حكومات ما بعْدَ الاستقلال، ودكتاتوريتها، وتسلُّطها على شعوبها بعد أن وصلتْ إلى السّلطة على أكتافهم، وبأصواتِهم، والإهمال المتعمَّدُ للأوضاع البائسة التي يعيشها هؤلاء مع التّهميش السياسي، والاجتماعي، والتّهميش الاقتصادي، خلقَ مناطقَ وأحياءَ للفقراء، وتمتازُ بكثافةٍ سكّانية عالية، ونِسَبِ بطالة مرتفعة، مع خدمات معدومة، كان من المفترض على هذه الحكومات أن توفِّرها، ممّا جعل إمكانية تحوُّل هذه المناطق إلى بُؤَر للتّطرف؛ احتمالٌ لا يمكن الاستهانة به لوجود المناخ العام الملائم لِتقبُّل أفكار متطرفة، هذا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي؛ أمّا على المستوى السّياسي، فإنّ المعروف عن حركات التّحرر في العالم العربي والإسلامي أنّها كانت تتّخذ من الدّين محفّزًا وسَنَدًا للتّخلُّص من الاستعمار على المستوى التعبوي والسوقي لتحريك الجماهير للانخراط في عملية المقاومة، خصوصًا إذا لم نُهْمِل حقيقةَ كوْن الدّين مكوّنًا رئيسيًا وحيويًا جدّا في هذه المجتمعات، كما حصل في ثورة العشرين في [العراق] التي قادها علماءُ الدين، وثورة (عمَر المختار) في [ليبيا]، و(عبد القادر الحُسيْني) في [فلسطين] وهلم جرّا؛ هذا مهّدَ لقيام حكومات مستقلّة، وجرى إقصاءُ هؤلاء عن مجرّد المشاركة السياسية، بل عملتْ بعضُ الحكومات على تصفيتهم جسديًا ممّا جعلهم يَندفعون باتّجاه التّطرف في طريقة التعامل مع الحكومات السّياسية [العَلمانية]؛ وانظُرْ مثلاً استخدامهم لمصطلح الجاهلية في أدبياتهم؛ هنا انتعش الفكر التّكفيري مع الحكومات ومع أطراف أخرى من المفترض أنّهم من نفس المنظومة التي ينتميان إليها، وبعد الحقبة الاستعمارية، عاد المستعمرون القدامى والجدد ليتسلّلوا عائدين، بمساعدة ما كان من المفترض أن تكون أنظمةً وطنيةً، حيث بدأتْ مرحلة دعْم الحكومات الدّكتاتورية المتسلِّطة على شعوبها، وتوفير فرص البقاء لها وإنعاشها في حالات التّدهور والاقتراب من السقوط، واحتمال فقدان السلطة؛ كل هذا، دفع هذه المجتمعات إلى نظرة عدائية للغرب باعتباره مساندًا للاستبداد، فوجبتْ مقاومتُه وكان الإرهابُ هو أنجعَ وسيلة في نظر من يشجّعون عليه ويدْعون إليه ويعتبرونه [جهادًا]؛ ولا يقتصر الاستبدادُ بهذا المعنى على الجانب السّياسي، وإنّما يمتدّ ليشمل كافّة جوانب المجتمع التّنظيمية، اقتصاديًا، وتعليميًا، تربيةً، وإدارةً، وتشريعًا وثقافةً؛ فالاستبداد في المجتمعات العربية له جذورُه التّاريخية..
وأمّا ثقافة الكراهية، فترجع إلى عناصرَ عديدة، دينية، ومذهبية، وقومية، وقَبَلية، وسياسية، وثقافية.. هذه الخلفية التّاريخية، لها السّبب الأهمّ في تطرُّف النّظرة والسّلوك تجاه الغرب، وهي زرْعُ كيانٍ في قلب العالم العربي، بل والإسلامي، على يد الغرب وتغليب مصالح هذا الكيان على طول الخطّ والسّكوت عن إرهابيته وعدم محاسبته؛ وهذا إن كان يُرضي بعض الحكومات، فإنّه يدفع المجتمعات العربية إلى التّطرف تجاه الغرب، وتجاه حكومات أيضًا الراضخة للواقع العالمي المحكوم بمنطق القوة العسكرية والاقتصادية.. هذا للأسف الشّديد ما لا تناقشه مؤتمراتُ مكافحة الإرهاب، فيركّز المؤتمرون على الجانب الأمني فقط، دون مناقشة المشكل بشكلٍ أعْمق يَقوم به فلاسفة ومفكّرون لا سياسيون..