أولاً يجب أن أنبِّهَ بأنّ القراء مَلُّوا لغةً مملّةً مليئةً بكلمات وبأشباهِ الألفاظ مثْل مَثلاً [الدَّمقرطة]، و[الـمَأْسَسة]، و[الـمُنْدمِجَة]، و[رابِح، رابِح]، وأساليب رتيبة ومتشابهة محْشوة بألفاظ وعباراتٍ مَلَّتْها أعْينُنا، وأزعجَنا سماعُها؛ فالقارئُ مواطنٌ مهموم، يريد أن يَقرأ صحافةً تعبّر عن آلامه، وهمومهِ ومشاكلِه، وترفع إلى المسؤولين المشغولين بمصالحهم الخاصّة شكَاواه، وأنّاتِه، وهكذا سيصبح القارئُ مدعِّمًا لكلّ جريدة تهتمّ بقضاياه، وبقراءتِه لهذه أو تلك، ستستطيع الارتقاء؛ والصّحافة الموجودة في الخطوط الأمامية هي تلك التي تهتمّ بشؤون المواطنين، وتعبِّر عن آلامهم، وآمالِهم؛ فحتى الفلسفة التي ارتبطتْ بقضايا الإنسان، ومصيرِه، وأحوالِه هي التي ظلتْ قائمة؛ وأمّا الفلسفةُ التي تاهتْ في سمادير الأوهام، وتعاطتْ للميتافيزيقا، فقد أُهمِلتْ ولا تُذْكَر إلا كتراثٍ فلسفيٍّ أو أثرٍ تاريخي، وهي التي يُطلَق عليها [بؤْسُ الفلسفة]، ونحن اليوم نعيش [بؤس الإعلام]، بحيث يقدِّم لنا هذا الإعلامُ ما يريده، لا ما ننتظره منه، فكم قناة وطنية ناقشتْ إنجاز [رامبو] الرّباط، وهو يستعرض عضلاته على مواطنين عُزّل؟ كم جريدة علّقَتْ على هذه الكارثة المرتبطة بالكرامة وحقوق الإنسان؟ فلماذا تريد من مواطن مَغبون أن يشتري جريدتَك أو يسمع إذاعتَك أو يشاهد قناتَك، وكلُّها تَخْدم جهاتٍ معيّنة، ولا تَخدم مصالحَ مُواطنٍ مهموم؟ هل هذا معقول؟ الجواب: كلاَّ!
والآن، اسمعِ المعقول، واسمعِ التاريخَ ماذا يقول! ففي المقالة السّابقة طلبْنا رأيَ الفلاسفة حوْل كلمة [كرامة]، وفي هذه المقالة سنرى بماذا سيحدِّثنا التاريخُ؛ والتّاريخ أوصى به الله عزّ وجلّ في قوله: [أفلا تَذْكرون].. حكى لنا التاريخُ قصّةً تنطبق على [رامبو] ومن سخَّره للمسّ بكرامة إنسانٍ كرَّمه خالقُه سبحانه وتعالى، فقال التّاريخ: كان [عمْرو بنُ العاص] واليًا على [مِصر] في عهد [عُمر بن الخطّاب] رضي الله عنه؛ وذات يوم، كان ابنُ [عَمْرو بن العاص] يتجوّل في السّوق، فحدثتْ مشادّاةٌ كلامية بيْنه وبيْن [قِبْطي] فانهال عليه ابنُ [عمْرُو] بالدّرة، فأراد [القِبطيُ] أن يردَّ دفاعًا عن كرامته، فقيل له إنّ الذي ضربه، هو ابن الوالي؛ فخاف [القِبْطيُ] وصَمت؛ وفي اليوم التالي، ركب صهوةَ جوادِه وانطلق نحو المدينة [المنوّرة] ليعْرض شكواه على [عمر بن الخطاب]، فلما وصل، قيل للخليفة إنّ [قبطيًا] قدِم من [مصر] ويريد مقابلتكَ، فأَذِن له [عمرُ]، فشكى إليه [القِبطي] ما فعله به (ابنُ عَمرو بن العاص)، فأمرَ [عمرُ] بأن يقيم [القِبطيُ] في دار الضيافة حتى يستدعيه؛ فكتبَ [عمرُ] رسالةً إلى [عمْرُو بن العاص] قال له فيها: (أقدِمْ إليَّ بصحبة ابنِكَ؛ والسلام)؛ فلما وصلتهُ رسالة الخليفة، ذهب [عمرو] وابنُه لمقابلة [عمَر بن الخطاب]، فلما وقفا أمامَه، استدعى [القبطيَ] إلى مكتبه، وقال له: مَن ضربك، هذا، أمْ هذا؟ فأشار [القبطيُ] إلى (ابن عَمْرو بن العاص)، فناولَ [عُمرُ] [القبطِيَ] سَوْطًا وقال له: اِضربْهُ كما ضَربكَ! فانهال [القبطيُ] على (ابن عمرو بن العاص)، ولـمّا فرغَ منه قال: أَمدَّ الله في عُمرِ أمير المؤمنين؛ فقال له [عمرُ بن الخطّاب]: والآن، أَزِلْ قبَّعةَ [عمْرو بن العاص] والْطُمْ على صلعتِه! فاندهش [القِبْطيُ] قائلاً: إنّ هذا الرجُل لم يَمسَسْني بسوء يا أميرَ المؤمنين، فكيف سَألطُمُ على صلعتِه؟ قال [عمرُ بن الخطاب]: إنّ هذا ضربكَ بهذا، لأنّ أباه هو الوالي؛ فلَطمَ [القبْطيُ] على صلعة [عَمْرو]، فناوله [عُمرُ] مَبْلغًا من المال مقابل مَشاقّ السّفر، ثمّ عزلَ [عمرو بْن العاص] من ولاية [مصر].. فالظالمُ [رامْبو] الرباط، ضَرب المواطن المسكين لأنّ من سَخَّروه، ومن يَحْمونه، ومن بعثوا به إلى الشّارع، هم أناسٌ لا يَعرفون للكرامة معنًى، وهم الآن يقولون إنّهم فَتحوا تحقيقًا؛ فهل فتَح [عمرُ بن الخطاب] تحقيقًا؟ فتحقيقاتُهم نعرفها جيّدا..
يقول التاريخُ إنّ قومًا لا يحْذرون مَكْره، وأنّ حادثة مثل حادثة [رامْبو] الرباط، يُمكن أن يكون لها مآلات مأساوية أو تترتّبُ عنها أحداث كارثية، كيف ذلك؟ يجيب التاريخ قائلاً: أَلمْ تَرَ ما حدثَ في مدينة [تميشْوارَة] في [رومانيا] سنة (1989) بعدما عنَّف عُنصرٌ من جهاز [لاسيكُورِيطات] مواطنًا بالشّارع؟ ألمْ تَرَ كيف اندلعتْ فتنة (الرّبيع العربي) من [تونس] بعدما صَفعَتْ شرطيةٌ شابّا حاملاً لشهادة عليا، وكان يشتغل كبائع متجوِّل، فَعزَّتْ عليه كرامتُه، فأحرقَ نفسَه، واندلعتِ الأحداثُ، وما زالتْ مندلعة إلى يومنا هذا، في بلدان عربية، لأنّ فيها أُناسًا جهلة، وظلَمَة، يعتقدون بأنّ لا شيءَ سيحدُث، لأنّهم يَجهلون [مَكْر التاريخ]، وبأنّ ظُلمَهم سَيَجعلُ الشّعوبَ أَشْبه بمقابر لا حياةَ فيها حتى يأتيهم اليقين ولو بعد حين؟ هذا الظّلمُ الذي مارسَه المنتفعون والمتحكّمون في [روسيا] هو الذي أدّى إلى سقوط الملكية، واستيلاء الشّيوعية أوِ الطّاعون الأحمر على الحُكمِ في البلاد.. لهذه الأسباب، وتمشيًا مع ما يؤكّده التاريخُ، يَجب عَزْلُ هؤلاء الذين يَستخفّون بكرامة الـمُواطن، ويَلعبون باستقرار وسلامة الوطن، بل يُمِدُّون الأعداءَ بموادّ تُستخدَم ضدّ بلادِنا..