محمد فارس
من هو هذا الرجل؟ عندما كان الأنصارُ يبايعون الرسول عليه السلام بيْعةَ العقَبة الثانية، كان يجلس بين السّبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم، شابّ مُشرق الوجه، رائعُ النظرة، برّاقُ الثنايا، يُبهر الأبصار بهدوئه وسمته فإذا تحدّث ازدادتِ الأبصارُ انبهارًا، ذلك هو [مُعاذُ بن جبل] رضي الله عنه.. هو إذن من الأنصار، بايعَ يوم العَقبة الثانية، فصار من السّابقين الأوّلين؛ ورجل له مثْل أسبقيته، ومثل إيمانه ويقينه، لا يختلفُ عن رسول الله في مشهد ولا في غزاة، هكذا صنعَ [معاذ].. على أنّ تألّق مزاياه، وأعظم خصائصه، كان فقْههُ؛ لقد بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلاً لقوْل الرسول عنه: [أعْلمُ أُمّتي بالحَلال والحرام، معاذُ بن جبل]..
عُرِف باستنارة عقله، وشجاعة ذكائه؛ سألهُ الرسولُ حين وَجَّهه إلى اليمن [بِمَ تَقْضي يا مُعاذ؟]، فأجابه قائلاً: [بِكتاب الله]؛ قال الرسولُ: [فإن لم تَجِدْ في كتابِ الله؟]، قال مُعاذ: [أقضي بسُنّة رسوله]؛ قال الرسولُ: [فإن لم تجِدْ في سُنّة رسوله؟]، قال مُعاذ: [أجتهد رأْيي ولا آلو]؛ فتهلَّل وجْه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: [الحمد لله الذي وفّق رسول الله لـمَا يُرضي رسول الله].. ولعلّ هذه القدرة على الاجتهاد، والشّجاعة في استعمال الذكاء، والعقل، هما اللتان مكّنتا مُعاذًا من ثرائِه الفقهي الذي فاق به أقرانَه وإخوانَه، وصار كما وصفه الرسولُ عليه السلام: [أعْلَمُ الناس بالحلال والحرام]..
وهذا [شهر بْن حوْشب] يقول: [كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا تحدّثوا وفيهم (معاذُ بن جبل) نظروا إليه هيْبةً له]؛ ولقد كان [عمرُ بن الخطّاب] يستشيره كثيرًا، وكان يقول في بعض المواطن التي يستعين فيها برأيِ (معاذ) وفقهِه: [لوْلا (مُعاذ بن جبل) لهلكَ (عُمَر)]، ويبدو أن مُعاذًا كان يمتلك عقلاً أحسنَ تدريبَه، ومنطقًا آسِرًا مُقنِعًا ينساب في هدوء وإحاطة.. فهو دائما جالسٌ والناس حوله، وهو صَموت، لا يتحدّث إلا عن شوق الجالسين إلى حديثه؛ وإذا اختلفوا في أمْرٍ، أعادوه إلى [مُعاذ] ليفْصل فيه، فإذا تكلّم، كان كما وصفهُ أحدُ مُعاصريه: [كأنّما يَخرجُ من فمِه نورٌ وَلُؤلُؤ]؛ ولقد بَلغ هذه المنزلة في علمه، وفي إجلال المسلمين له، أيام الرسول وبعد مماته، وهو شاب، فلقد مات [مُعاذ] في خلافة [عمَر] ولم يتجاوزْ من العُمر ثلاثًا وثلاثين سنةً.
كان [معاذُ] سمْح اليد، والنفس، والخلُق، فلا يُسألُ عن شيء إلا أعطاه جزلان، مُغْتبطًا، ولقد ذهب جودُه وسخاؤه بكل ماله، ومات الرّسولُ صلى الله عليه وسلم، و[معاذ] في [اليمن] منذ وجَّههُ النّبيُّ إليها يعَلّم المسلمين ويُفقّههُم في الدّين.. في خلافة [أبي بكر]، رجع [مُعاذ] من (اليمن)، وكان [عمرُ] قد عَلمَ أنّ [مُعاذًا] أثْرى، وصار غنيًا، فاقتَرح على الخليفة أن يشاطره ثروتَه وماله، ولم يَنْتظِر [عمرُ]، بل نهضَ مُسْرعًا إلى دار [مُعاذ] وألقى عليه مقالتَه.. كان [مُعاذ] طاهر الكفّ، طاهر الذّمة، ولئن كان قد أثرى، فإنه لم يَكْتسب إثْمًا، ولم يَقْترف شُبْهة، ومن ثمّ فقد رفضَ عرضَ [عُمَر]، وناقشه رأيَه، وتركه [عُمرُ] وانصرف.. ذهب [معاذ] و[عمر]، وطلب [معاذ] مِن [أبي بكر] أن يشاطره ماله، فقال [أبو بكر]: [لا آخُذ منك شيئًا] فنظر [عمرُ] إلى [معاذ] وقال له: [الآن، حلّ وطاب]، فما كان [أبو بكر] الورع ليتركَ لِـ[معاذ] درهمًا واحدًا، لو علمَ أنّه أخذَه بغير حقّ، وما كان [عمرُ] مُتجنّيًا على [معاذ] بتهمة أو ظنّ..
ويهاجر [معاذ] إلى (الشّام)، فاستخلفه [عمرُ] على (الشام)، ولا يمضي عليه في الإمارة سوى بضعة أشهر حتى يَلقى ربّه.. كان [عمرُ] يقول: [لو استخلفتُ (معاذ بْن جبل)، فسألني ربّي: لماذا استخلفْتَه؟ لقلتُ: سمِعْت نَبِيَّكَ يقول: إنّ العلماء إذا حضَروا ربّهم عزّ وجلّ، كان (معاذ) بيْن أيْديهِم].. كان [معاذ] يدعو الناس إلى التماس العِلم النّافع، ويقول: [اِحْذَروا زَيْغ الحكيم، واعْرفوا الحقَّ بالحق، فإن للحقِّ نورًا]؛ قال له يومًا أحدُ المسلمين: [علّمني]، فسأله [مُعاذ]: [وهل أنتَ مُطيعي إذا علّمتك؟]، قال الرجل: [إني على طاعتكَ لَحريص]، فقال له [معاذ]: [صُمْ وافطِر، وصلِّ ونَمْ، واكتسِبْ ولا تَأْثمْ، ولا تموتنَّ إلا مسْلمًا، وإيّاكَ ودَعوةُ المظلوم]؛ هذا هو [مُعاذُ بن جبل].