في تحرك استراتيجي يعكس تحوّلًا عميقًا في السياسات السيادية المغربية، أعلنت المملكة توقيع اتفاق تاريخي مع فرنسا يُنهي عقودًا من الاعتماد التقني على باريس في ما يخص إنتاج وتوزيع الخرائط البحرية للمياه المغربية. الاتفاق، الذي وُقّع بين وزارة الدفاع المغربية والهيئة الفرنسية للهيدروغرافيا والأوقيانوغرافيا (Shom)، ينقل هذه المهام الحساسة إلى البحرية الملكية المغربية، وفقًا لبيان صادر عن السفارة الفرنسية بالرباط.
ويُمثل الاتفاق، بحسب محللين، أكثر من مجرد تحول تقني. إنه إعلان عن مرحلة جديدة في بناء الاستقلال البحري المغربي، في منطقة جيوسياسية حساسة تشمل البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية والأمنية الدولية.
قطع مع “ما بعد الاستعمار”
“هذه لحظة سيادية بكل المقاييس”، يقول هشام معتضد، الباحث في الشؤون الاستراتيجية. فبحسبه، شكّلت الهيمنة الفرنسية على إنتاج الخرائط البحرية المغربية أحد تجليات التبعية التقنية التي استمرت بعد الاستعمار، ما جعل الاتفاق الجديد “قطيعة معرفية وإجرائية” تعيد تعريف السيادة في بُعدها البحري.
الخرائط البحرية ليست فقط أدوات للملاحة. إنها، كما يقول معتضد، مفاتيح الجغرافيا الاقتصادية والسياسية. إذ تُحدد مناطق التنقيب عن الطاقة، وممرات الشحن، ونقاط الضعف الأمنية. في هذا السياق، فإن مغربة هذه الأداة تُعد خطوة ضمن مشروع أوسع لإعادة هندسة البنية السيادية للمملكة.
إشارة إلى تحوّل في العلاقات مع فرنسا
الاتفاق، وإن بدا تقنيًا في مضمونه، يندرج في مسار سياسي واستراتيجي أعمق. فالعلاقات المغربية-الفرنسية تمر بمرحلة إعادة تموقع، والموقف الفرنسي المتطور من قضية الصحراء المغربية عزز هذا التقارب.
يقول عبد الرحمن مكاوي، الخبير في الشؤون العسكرية، إن الاتفاق هو “ترجمة عملية للموقف الفرنسي الجديد”، ويعزز قدرة المغرب على إدارة مياهه الإقليمية، خاصة في ظل مشاريع استكشاف الثروات البحرية، والتحديات الأمنية المتنامية، مثل الهجرة غير النظامية والتهريب والصيد غير القانوني.
من السيطرة التقنية إلى الرؤية الاستراتيجية
المغرب لم يعُد يطلب من حلفائه أن يلعبوا دور “الوصي التقني”، كما يرى محللون، بل يعيد بناء أدواته الداخلية بما يتماشى مع رؤيته الاستراتيجية الجديدة. هذا التحوّل يبرز في السياسة الخارجية المغربية المعاصرة، من اعترافات متزايدة بسيادته على أقاليمه الجنوبية، إلى حضوره المتصاعد في إفريقيا، وصولًا إلى تعزيز دوره كقوة بحرية ناشئة.
البحرية الملكية، بدورها، تستعد لتحمّل مسؤوليات أكبر، ليس فقط في إنتاج الخرائط، بل في مراقبة التحركات البحرية وتدعيم السلامة البحرية، وتطوير أدوات السيادة الرقمية المرتبطة بالأمن البحري.
خارطة جديدة لنفوذ مغربي متجدد
الحسين أولودي، الباحث في الجغرافيا السياسية، يؤكد أن الاتفاق يعزز قدرة المغرب على مراقبة مياهه بكفاءة، خاصة في ظل ارتفاع التهديدات المرتبطة بالقرصنة والصيد الجائر والهجرة غير النظامية. ويرى أن تولي البحرية المغربية إنتاج هذه الخرائط يُعزز البنية التحليلية والاستشرافية للدولة في المجال البحري، ما يُمكّنها من تحديد أولوياتها الاقتصادية والأمنية بمزيد من الاستقلالية.
الاتفاق أيضًا يحمل بعدًا تفاوضيًا ضمنيًّا في ملفات إقليمية ودولية، إذ إن السيطرة على المعلومات البحرية تعني امتلاك أدوات تفاوض إضافية في قضايا مثل الترسيم البحري، واستغلال الثروات الطبيعية، والملاحة التجارية.