سناء البوعزاوي*
لطالما فرحت بمقابلة شخص مار من أمامك ، أو دخلت مطعما أو زرت إدارة ، و قابلك العامل بها ببشاشة و حسن المعاملة ، و لو حتى بابتسامة خفيفة خفية تدخل البهجة على قلبك و كأنه أهداك هدية ثمينة باهظة الثمن ،خصوصا في عصرنا الحالي ،عصر السرعة و الإنشغال و الضغوطات اليومية في جميع مجالات الحياة و حيثياتها ، فتأتي تلك الإبتسامة و الكلمة الطيبة كالبلسم الذي يشفي جراح الروح و يشحنها لتكمل يومها بكل إيجابية و سعادة . إذا تعمقنا في صلب الموضوع و عكسنا المرآة ، فيمكن طرح هذا السؤال ، بما أنه شيء سهل ، و “بدون مقابل مادي” و لا يكلف الإنسان شيئا البتة ، فلماذا يستخسر الإنسان فك العبوس أمام وجه إنسان آخر سواء أكان جاره أو صديقه في العمل أو الدراسة ، أو حتى عابر سبيل ؟! ، ما الذي يجعل الشخص يستصعب حركة خفيفة في عضلات الوجه ، التيسيكون ،ربما ،هو المستفيد الأول منها ، حيث أن الدراسات أظهرت أن مجرد الإبتسامة تحرك 14 عضلة في الوجه ، ناهيك عن إفراز هرمون السعادة الذي يسمى بالسيروتونين، و الذي يفرز أيضا بعد ممارسة الرياضة ، علاوة على الشق الديني الذي يشيد بأثر الكلمة الطيبة ووقعها على النفوس .
ما الذي دهى الإنسان؟ ما الذي غيره على أخيه و جاره و صديقه ، هل هو أثر العولمة ؟ أم هو أثر مواقع التواصل الإجتماعي ، التي يدل إسمها على تتكثيف التواصل و ربط العلاقات الجيدة ؟ أم هو السعي وراء رغيف العيش الذي أصبح ينسينا الروابط و الأواصر و لا يدع مجالا، لا لإلقاء الكلمة الطيبة و مساندة القريب أو التهوين عليه ولو بابتسامة تشرح القلب !
نعلم أن نواة كل مجتمع هي الأسرة و العائلة ، هاته النواة التي إذا حافظنا عليها ، حافظنا على هويتنا وتراثنا و أصلنا و جذورنا ، ومنها نأخذ قيمنا و نكبر و نشب عليها . فمن خلال جولة استطلاعية في مواقع التواصل الإجتماعي ، هناك كم هائل من الأفراد و المجموعات ، يتأففن و يتأسفن إلى ما آلت إليه العائلة مؤخرا من تفكك و قطع صلة رحم ! الكل منشغل في عمله أو دراسته ، الكل يعمل كالآلة بدون مشاعر و بدون علاقات ، لتترك المجال لعلاقات المصلحة و قضاء الأغراض ، الأغلب يحاول نسج علاقات و صداقات يطعم بها “الرأس مال الإجتماعي” كما سماه عالم الإجتماع الفرنسي “بيير بورديو” هذا الرصيد الذي إذا أغناه الفرد ، يعينه لا محالة في حياته و تسهيل مأمورياته ، ضاربا بعرض الحائط كل العلاقات الإنسانية الطبيعية ، الخالية من المصالح ، كالعلاقات بين الجيران و الناس المسنيين في العائلة كما نسميهم “البركة ” . فترى شهادات بين فئة من الناس يشهدون أنه وخصوصا بعد مرور جائحة كورونا و مخلفاتها، و بعد التأقلم مع ما وجبته حينها من تباعد و تفادي معانقة الأحباب و العائلة ، و أي ملامسة جسدية ، أو الأكل من نفس الصحن خصوصا مع الشخص المصاب بالوباء … و ما إلى ذلك من تدابير وقائية ، أن العلاقات بدأت تندثر و الزيارات بدأت تقل و تربع على عرش التواصل الإنساني التقليدي ، عدة تطبيقات للتواصل ، حيث ترى جارك أو صديقك أو أخاك … صوت و صورة تتكلم معه و أنت تحتسي كأس الشاي في زاويتك و هو يرتشي القهوة في زاويته ، وسيلة مضمونة ، بدون خسائر مادية لإعداد وجبة غذاء للضيف و بدون إهدار لنصف يوم كامل ، فيمكنك أن تنهي المكالمة و تخرج لقضاء حوائجك ، متى أردت لن تحرج لتستأذن ضيفك على موقع التواصل ، أو يمكن أن تكتفي بإرسال رسالة صوتية تخبره عن أخبارك أو يومك و هو يجيبك بالمثل ! هكذا أصبحت العلاقات عند فئة كبيرة من الناس ، فترى البعض يتأسف لما آلت إليه الروابط الإجتماعية ،بينما ترى البعض الآخر تأقلم بل و تكيف مع هذا الوضع ووجده مريحا أكثر . فعلا للناس فيما يعشقون مذاهب ، لا يمكن فرض وضعية ما أو علاقة ما على فرد من الأفراد ، لكن ما يميزنا نحن كمغاربة هي هاته العلاقات و أواصر المحبة بين الأقارب و الأحباب ، بها نأثث أعيادنا و بها تضاف فرحة إلى أفراحنا و نجاحاتنا ، و بها نتاباهى عند خالقنا ، فكما هو متعارف عليه في الدين الإسلامي ؛ أن إثنين تحابا لوجه الله بدون أي مصلحة مادية تذكر أو غاية في نفس “يعقوب” يدخلان كلاهما الجنة ، و المحبة تترجم بالكلمة الطيبة ، و البشاشة كما ذكرنا في مستهل مقالنا هذا ، فقد روى في هذا الصدد مدير مدرسة سياحية عليا في شمال المغرب، مبرزا للطلبة مدى أهمية الإبتسامة في المجال السياحي و مجال الخدمات ؛ أن في إحدى الفنادق المصنفة عالميا ، كانت شخصية مهمة ترتاد مطعما داخل هذا الفندق ، و بينما كان يضع له النادل طلبه فوق الطاولة بوجه عبوس قمطرير ، استوقفه الزبون ، و استفسره عن ما يقلقه ، فرد بأن أموره جيدة فقط هي تقاسيم وجهه ، فطلب منه أن يبتسم في وجهه ، و لو كانت الإبتسامة مؤدى عنها فل يضف ثمنها إلى الفاتورة ! هاته إشارة قوية عن وقع الإبتسامة أو عدمها على النفوس ، و خصوصا إذا كان إنسان يريد أن يرتاح أو يستجم في منجع سياحي أو مطعم أو حتى مقهى ، فبعض الأحيان لا يهمه الأكل أو الشرب أو كأس الشاي بقدر أنه انزوى إلى مكان يريد أن يبدل طاقة يومه بطاقة أفضل و أكثر انتعاشا ، لا أن يزيد هما على هم و غما على غم ، فإذا رجعنا إلى عالم الإجتماع بيير بورديو الذي يعدد الرساميل الثلاث المهمة في حياة الإنسان، الرأس مال الثقافي و الاقتصاديو رأس مال العلاقات الإجتماعية ، فقد نضيف إلى هاته النظرية؛ رأس مال الأدب و الأخلاق ، لأنه من الصفات التي تؤدي إلى تنظيم العلاقات بين البشر وتهذيب السلوك الإنساني المبني على المعاملة الحسنة والسمو الروحي والتي تضم الإبتسامة و إفشاء السلام و الكلمة الطيبة ، فهذا الرأس مال مهم جدا ، إذ به تفتح لك عدة أبواب مغلقة ، و تدخل قلوب الناس دون استئذان ، فلنا عودة لهذا الموضوع لنتكلم باستفاضة أكثر ، و نختم ببيت شعري لأحمد شوقي ” إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ” .
*كاتبة ومختصة في التنمية الذاتية و باحثة في علم الإجتماع