محمّد فارس
السياسةُ هي فنّ حاذق في تنظيم أمور الدّولة، وتدبير شؤونها، وإصلاح حالها، والحفاظ على ثرواتها من أيدي العابثين، والمنتفعين من عُبّاد المناصب والمتهافتين على المصالح والمكاسب؛ فإذا كانتِ السّياسةُ شرعية، كانت أحكامُها مستمدّة من الدّين؛ وإذا كانت مدَنية كانت قسْمًا من الحِكمة العَملية، وهي الحكْمةُ السّياسية أو علم السّياسة.. وموضوع علم السياسة عند قدماء الفلاسفة، هو البحث في أنواع الدول والحكومات، وعلاقتِها بعضها ببعض، والكلامُ على المراتب المدَنية، وأحكامها، والاجتماعات الإنسانية الفاضلة والرّديئة، ووجوه استبقاء كلّ منها، وعلّة زواله، وكيفية رعاية مصالح المواطنين، وعمارة المدن وغيرها.. والفرقُ بين السّياسة النظرية والسّياسة العَملية، هو أنّ الأولى تُعْنى بدراسة الظواهر السياسية المتعلّقة بأحوال الدّول، والحكومات، على حين إنّ الثّانية تُعْنى بأساليب ممارسة الحُكم في الدّولة لرعاية مصالح الناس، وتدبير شؤونهم، وإصلاح أحوالهم، وحِفْظ حقوقهم، وقد سمّى [جون لوك] الحكومةَ بأنّها الحارس على حقوق ومصالح المواطنين؛ فهل لنا في [المغرب] سياسيون أكفاء، ووزراء مقتدرون للقيام بهذه الأعباء؟ الجواب: كلاّ! لنا فقط أصحابُ مصالح، وذُؤْبان انتخابات، وعبدَةُ مناصب، ومُحْتكِرو نفوذ، وأهلُ نفاق تَجود بهم الأحزابُ الرّديئة..
فحبّذا لو كان بين ظُهرانَيْنا اليوم، رجلٌ مثْل [حُذيْفَة بنُ اليَمان] رضي الله عنه، وقد كان رجلاً جاء الحياةَ مزوَّدًا بطبيعةٍ فريدة تتّسِم ببُغْضِ النّفاق، وبالقدرة الخارقة على رؤيتِه في مكامنه البعيدة.. لقد نَمت موهبتُه فعلاً أعظَم نماء، وتخصّصَ في قراءة الوجوه والسّرائر؛ يقرأُ الوجوهَ في نظرة، ويَبْلو كُنْهَ الأعماق الـمُستَتِرة، والدّخائل المخْبوءَة في غير عناء، فكان [عمرُ] رضي الله عنه، يستدلّ برأيه، وبِبَصيرته في اختيار الرّجال لتحمّل المسؤولية.. قال [حُذَيْفة بن اليمان]: [كان الناسُ يَسْألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسأَلُه عن الشّر مخافةَ أن يُدْركَني].. كان [حُذَيْفَة] يدير المسائلَ في فَكْره وعقله بأسلوب فيلسوف، وحصافة حكيم؛ فحبّذَا لو كان بيْننا اليوم، لطلبْنا منه فضْحَ المنافقين الذين يدّعون خدمة الوطن، ويَحْرصون على تقدّمِ الأمّة.. حبّذَا لو كان [حُذَيفة] موجودًا لقرأ لنا وجوهَ الكذَبة، والمنافقين من مسؤولين، ومترشّحين، ومتحزّبين، كلهم يدّعون الوطنيةَ وخدمةَ البلاد بأبهظ الأثمان، وأضخَم الأجور، بالإضافة إلى امتيازات، وحيازات، وريع مُريع يكاد يتركُ الخزينةَ خاوية على عروشها.. هذا هو [حذيْفة]، عدوُّ النّفاق، صديق الصدق والوضوح، ولحِكْمة [حُذَيْفة] نحتاجُ اليوم، وقد كثُر المنافقون، والكذَبة، والمراؤُون، والخدّاعون، وأصحابُ الكرم الزّائف؛ تلكُم هي السّياسة الحكيمةُ؛ تلكُم هي الحِكمة السّياسية في اختيار أصلَح الناس وأجْودهِم لخدمة البلاد..
لكن ماذا عن حماية أموال الدولة وعدم صَرْفها في ما لا يَنفع ولا يُجْدي؟ فهل هناك رجلٌ نَقتدي به في هذا المجال؟ نعَم، هناك بطل أعرفُه يُدْعى [أبو ذَرّ الغِفاري] رضي الله عنه، عدوُّ الثّراء الفاحش والإثراء اللاّمشروع.. قال فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: [ما أَقلّت الغَبْراء، ولا أظلّتِ الخَضراء، أصْدَقُ لهجة من أبي ذَرّ].. كان لا يَصْعد جبلاً، ولا ينزلُ سهلاً، ولا يدْخُل مدينةً، ولا يواجه مسؤولاً إلاّ وهذه الكلماتُ على لسانه: [بشِّرِ الكانِزين الّذين يَكنِزون الذّهبَ والفضّةَ بمكاوٍ مِن نار تُكْوَى بها جِباهُهُم وجُنوبُهم يوم القيامة].. ويُلقي [أبو ذرّ] على الجُموع حوْلَه نظرات فاحصة، فيرى أكْثَرها ذوي خصاصة وفقْر، ثم يرنو ببصره نَحْو المشارف القريبة، فيرى البناءات، والضّياع، فيسأَل أصحابَ المناصب من الصّحابة الذين صار لبعضهِم ضِياع، وقُصور، ورواتب عالية من بيت المال، وكيف كانوا من قبْل وكيف صاروا في ما بعْد، فيصرُخ في وجْههم: [أَفأنتُمُ الّذين نَزلَ القرآنُ على الرّسول وهو بيْن ظُهرانيْهم؟!]؛ ثم يقول قولتَه الشّهيرة: [ما زاد عن الحاجة، فهو سَرقة]، فيتلقّفها [الـمُهاتْما غَاندي] ويردّدها ويُثْني على صاحبها.. سياسةُ وحِكمة [أبي ذَرّ] هي أنفَع سياسة لحِفظ مالِ الأمّة، والحِرص على ثرواتها بدَل ذَهابِها إلى [كروش لَحْرام]..
لكن وأيّةُ سياسة ينبغي أن نتّبِع في التّعيينات لمناصبَ عُليا، وللوزارات، والإدارات؟ هناك رجلٌ واحد، وأيُّ رجلٍ شامِخ كان وأيُّ إنسان؟! إنّه [سلمانُ الفارسي] الذي عَرف قيمَة، وخطورَةَ المسؤولية، ولم يهَرْوِل قطّ نَحوها، عكْس أناس اليوم، يلهثون وراءَها وهم غَيْر أهلٍ لها.. سئِل يومًا: يا سلْمان، ما الذي يُبْغِضُ المسؤولية إلى نفسِك؟ فأجاب: [حلاوةُ رضاعِها، ومرارةُ فِطامها]؛ لكنّ المسؤولية اليوم لها رضاع، وحلاوة، ولا مرارةَ لها، لأنّها غيرُ مرتبطة بالمحاسبة الصارمة؛ لذا ترى كلّ من هَبَّ ودَبَّ، يَصبو إليها ويلهثُ وراءَها لحلاوة رَضاعِها، وعدم مرارتِها وصاحبُها لا يُسْأَلُ عن النّعيم إذا تَقلّدَها..