من خضم المعاناة والفشل المتتالي الذي يكسر الخاطر، تمكن جاك ما، المزداد سنة 1964 في مدينة هانغشتو الساحلية شرق الصين، زمن الحقبة الثورية للزعيم ماو تسي تونغ، من شق طريق النجاح والتربع على عرش أقوى شركات التجارة الإلكترونية العالمية “علي بابا” في قصة نجاح نادرة أضحت مصدر إلهام للعديد من الأشخاص في الصين والعالم بأسره.
لم يكن طريق جاك ما، الذي ينتمي لأسرة فقيرة مكونة من 3 أبناء لأبوين كانا يعملان في مجال أداء الأغاني التقليدية لكسب الرزق، مفروشا بالورود وواجه في مساره الدراسي وفي بحثه عن الشغل لاحقا إخفاقات متعددة، فقد فشل في امتحانات الالتحاق بالجامعة ثلاث مرات، ورُفض لشغل الكثير من الوظائف البسيطة، كما رُفضت طلباته للالتحاق بجامعة “هارفارد” مرات متعددة بعد تخرجه.
واضطر جاك ما، صاحب البنية الجسدية الضعيفة، للالتحاق بكلية هانغتشو للمعلمين (جامعة هانغتشو العادية حاليا)، في عام 1984، التي كان ينظر إليها آنذاك على أنها أسوأ كلية فى مدينته. وبعد التخرج منها في عام 1988، مارس مهنة تدريس اللغة الإنجليزية لمدة 5 سنوات براتب لا يتجاوز 15 دولارا شهريا، فدفعه راتبه الهزيل إلى التفكير دائما في إيجاد مصادر أخرى للعيش.
ويرجع شغفه باللغة الإنجليزية إلى احتكاكه بالسياح الأجانب وهو لا يزال في سن صغيرة. ففي عام 1972 زار الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون مدينته هانغتشو، مما حولها إلى قبلة للسياح الأجانب، وكان جاك ما يتعامل معهم ويرشدهم لاكتشاف معالم المدينة، وهذا الاحتكاك المباشر مع السياح مكنه من تعلم اللغة الانجليزية.
وكشف جاك ما في إحدى مقابلاته التلفزيونية عن سلسلة الاخفاقات المبكرة التي واجهته في حياته، وقال “واجهت الكثير من الفشل، ومن الأشياء المضحكة التي فشلت فيها امتحانات المدرسة الابتدائية مرتين وثلاث مرات في اختبار المدرسة الاعدادية”.
ويتذكر بمرح كيف أنه تقدم بطلبات للعمل حوالي 30 مرة وفي كل مرة يرفض بسبب بنيته الجسدية الهزيلة، حيث لم يتم قبوله في جهاز الشرطة، وحتى في مطاعم “كنتاكي” عندما افتتحت فرعا لها في مدينته كان الوحيد من ضمن 24 شخصا الذي تم استبعاده، كما يتذكر رفض جامعة “هارفاد” 10 مرات طلباته لاستكمال الدراسة بها، قبل أن تصبح جامعات عالمية عريقة تفتح له أبوابها ليحاضر بها ويلهم الطلبة.
في سنة 1995، أتيحت لجاك ما الفرصة للذهاب إلى مدينة سياتل الأمريكية للعمل كمترجم، وهناك تعرف على عالم الإنترنيت لأول مرة، غير أن ما لفت انتباهه على شبكات الإنترنيت أنها لم تكن تحتوي على معلومات حول الصين أو عن المنتجات الصينية، ومن هنا لمعت في ذهته فكرة إحداث موقع للتعريف بالشركات والمنتجات الصينية.
وعندما عاد إلى الصين، أسس جاك ما موقعا إلكترونيا للبيانات عبارة عن دليل للأعمال التجارية أطلق عليه اسم “الصفحات الصينية”، ولم يكن مشروعا مثمرا، غير أنه بحلول عام 1999 اجتمع جاك ما مع 18 من أصدقائه في شقته بمدينة هانغتشو ليكشف لهم عن فكرة إطلاق شركة جديدة للتجارة الإلكترونية تحمل اسم مثيرا للانتباه “علي بابا”.
ويقول جاك ما إنه اختار هذا الاسم لأنه جذاب وعالمي والجميع سمع بقصة “على بابا والأربعون حرامي” والكنوز المخبأة. وانطلقت الشركة برأسمال 60 ألف دولار وواجهت صعوبات في البدايات. وفي عام 2000 استطاع جاك ما أن يوسع نشاط شركتة بعدما حصل على تمويل يقدر ب 20 مليون دولار، قبل أن يؤسس عدة منصات كبرى أهمها كانت “تاوباو” التي اقتحمت مجال التسويق والتجارة والإعلانات الإلكترونية، وحققت نجاحا ملفتا. وبحلول شهر أكتوبر عام 2005، استحوذ الموقع على 70 في المائة من سوق التسوق الإلكتروني فى الصين.
وفي عام 2010، أنشأ جاك ما منصة جديدة لتنضم إلى قائمة مجموعة “علي بابا”، وهي “علي إكسبريس” والتي حققت نتائج كبرى ، فأصبحت واحدة من منصات التجارة الإلكترونية الكبرى في العالم مع “أمازون” و”إي باي”، الأمر الذي جعل رأسمال المجموعة يتعاظم متجاوزا اقتصاد عدة دول.
وفي عام 2014، حطمت “علي بابا” أرقاما قياسية في بورصة “نيويورك”، وجمع الطرح العام الأولي لها 25 مليار دولار أمريكي في إنجاز قياسي. كما أضحت القيمة السوقية للمجموعة تتجاوز 535 مليار دولار، مع توفرها على 757 مليون مستهلك نشط سنويا في أسواق البيع بالتجزئة في الصين، لتصبح أكبر بائع تجزئة عبر الانترنيت في العالم.
وعلى الصعيد العالمي حصلت مجموعة “علي بابا” على سابع أعلى تقييم وراء شركات “فيسبوك”، و”أمازون”، و”ألفابت” الشركة الأم لغوغل، و”مايكروسوفت”، و”آبل”، و”أرامكو” التي تأتي في الصدارة.
وبمناسبة مهرجان التسوق “يوم العزاب” للعام الحالي في 11/11 حققت مجموعة “علي بابا”، التي كانت وراء إطلاق هذا الحدث في 2009، رقم أعمال ب 372,3 مليار يوان (نحو 56,2 مليار دولار) منذ الأول من نونبر هذه السنة. وشارك أكثر من 800 مليون متسوق و250 ألف علامة تجارية و5 ملايين تاجر في مهرجان التسوق للعام الحالي.
ومع هذه الإنجازات غير المسبوقة في قطاع واعد في الصين التي تتطلع لتعزيز ريادتها في مجال التجارة الإلكترونية العالمية، اختار التلفزيون الرسمي الصيني جاك ما ضمن قائمة القادة العشرة للأعمال عام 2004، وحصل على لقب “رجل الأعمال للعام” من قبل مجلة “بيزنيس ويك”، كما ظهر في قائمة رجال الأعمال الـ25 الأقوى في آسيا عام 2005.
وفي عام 2009 ورد جاك ما في قائمة مجلة “تايم” لـ “أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم”، فيما صنفته مجلة “فوربس” الشهيرة كواحد من أفضل 30 شخصية في العالم خلال عام 2014، كما تم تكريمه في حفل “الجوائز الآسيوية” الذي أقيم في عام 2015 ومنحه جائزة رائد أعمال العام.
ورغم سلسلة النجاحات التي حققها في ظرفية قياسية، فضل جاك ما الاستقالة رسميا من منصبه كرئيس لمجلس إدارة مجموعة “علي بابا” في شتنبر من العام الماضي، وفضل التفرغ للأعمال الخيرية والاهتمام بالبيئة من خلال “مؤسسة جاك ما”، وهو ما جسده في الاونة الاخيرة مع تفشي وباء “كوفيد-19” بتقديم مساعدات طبية للعديد من البلدان في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا.
وتعرض جاك ما، الذي جمع ثرورة كبرى من كنوز التجارة الإلكترونية، لانتقادات عديدة من قبل بعض وسائل الإعلام الغربية التي وصفته بأنه “وجه الدبلوماسية الناعمة للحزب الشيوعي الصيني”، غير أن ذلك لم يثنه في مواصلة مساره والعمل على تحفيز الشباب على الابتكار واغتنام الفرص.
و م ع