محمد فارس
كان [ابنُ الفُرات] رئيسًا للوزراء في العصر العباسي الثاني، حيث بدأت الشّيخوخةُ تظهر على الدّولة، وفشى الفسادُ والرّشوةُ في كل المرافق، ويُقال إنّ النّفوذ أصبح ضائعًا بين الوزراء، وكلّهم لا يرجون من وراء عنايتهم وجُهدهِم منفعةً لأنفُسِهم غيْر ما يكتسبونه من المال في أثناء نُفوذ كلمتهِم، فصار الغرضُ الأول من تَمْشِية الأحكام إنّما هو حشْدُ المال؛ فالوزير الذي كان يتولّى أمورَ الدولة، ولا يَدْري ما يكون مصيرُه بعد عام أو عاميْن، لا يَهُمُّه غير الكسب من أيِّ طريق كان، ولا يبالي بما قد يترتّب على ذلك فيما بعْد، عملاً بالقاعدة التي وضعها [ابن الفُرات] كبيرُ الوزراء، ورئيسُهم في ذلك العصر، وهي قولُه: [إنّ تمشيةَ أُمور الدّولة على الخطإ، خيْر من وقُوفها على الصّواب]؛ جاء هذا في كتاب [تاريخ الوزراء]؛ صفحة: (119) [لِلْهِلالي الصّابي]..
كان [ابن الفُرات] رئيسًا فاسدًا، محبّا للمال، لاهثًا وراءَ جمْع الثروة، حتى عمَّت الـمُصادرةُ عن طريق رفْع الجبايات لِلرّعية، فأنْشأ لِلمُصادَرة ديوانًا خاصّا مثْل سائر دواوين الحكومة، فكان المالُ يُتداول بالمصادرة كما يُتداول بالمتاجرة.. قال [ابنُ الفرات]: [تأَملتُ ما صار إلى الدولة من مالي، فوجدتُه (10 ملايين دينار)، وحسبتُ ما أخذتُه من (ابن الجصَّاص) فكان مثْل ذلك]، فكأنّه لم يَخْسِر شيئًا، وإذا أُرغمَ أحدُهم على دفع مبلغٍ لم يكُن في وُسْعِه أداؤُه كلّه معجلاً، أجَّلوه بالباقي، وساعدوه على تحصيله أو جمعِه بتغيير زَيّه، وإنزالِه في دار كبيرة فيها الفرش والآلة الحسَنة ليستطيعَ التَّمحل في جمْع المال من النّاس؛ وهكذا عُرفَ [ابن الفُرات] بابتزاز الأموال عن طريق الجباية أو الزيادة في الأسعار أو مُصادرة الأراضي والعقار، وكان كلُّ وزير من وُزراء حكومته يفْعل مثله، فكان الوزير يتولّى وزارةً عامًا أو عاميْن، ثمّ يُعْزل أو يستقيل، وله عدّة ملايين من الدّنانير، فضلاً عن الضّياع، والمباني، وقدِ اكتسبَ هذه الثّروة ونحْوَها من أسباب الفساد والمظالم..
كان وزراءُ [ابنِ الفرات] يهون عليهم ابتزازُ أموال المواطنين بشتى الطُّرق أو بالاختلاس.. كان الوزراءُ وموظّفُو الوزارات يَتلاعبون بأموال خزينة الدّولة، فيُنفِقون مثلاً دينارًا في بعض مصالحها، فيقيِّدونه عليها عشرة دنانير، أو باستخراج أموال الرّعية بالرّشوة، أو بِضرب الضّرائب الفادحة على الباعة، وأهل الأسواق في المدن، أو بسلب الفلاحين في القرى وإرغامهم على بيع غلاّتِهم بأبخس الأثمان، وإذا رفض الفلاحُ، شتموه، وحلقوا لحيتَه، وضربوه، وقد يغتصبون أرضه برمّتها.. هكذا كانت أحوالُ الدّولة حتى انهارت.. كان [ابنُ الفرات] يملكُ ضيعات فلاحية يشتغل فيها عمّال كعبيد، وكان [ابنُ الفُرات] يبيع غلاّته بالأثمنة التي أراد للباعة، فكانت المنتوجات لا تصل إلى الأسواق إلاّ وأثمانُها ملتهبة.. كان [ابنُ الفرات] يغتصب أموال الرّعية باقتضاء ضريبة الأرض مُضاعفة؛ كان عند [ابنِ الفرات] وزيرٌ من وزرائه يُدْعى [أبو زَنْبُور] وله ضياع مساحتها مائة فرسخ بمائة فرسخ، لم يُؤْخَذْ منه من حقوق بيت المال ولو درهم واحد، وكثيرًا ما كانت تُتْرك هذه الضياع بلا خراج لأهل الوساطة أو النّفوذ..
ومن وسائل ابتزاز الأموال، أن يقسط الوزيرُ أو من يقوم مقامه على أرباب الدواوين أو غيرهم مالاً على وجه القرض، على أن يسبِّب لهم عوضه من أهل النّواحي، فتقع الخسارةُ على الرّعية، فتضايَق أهلُ الأسواق في المدن، والفلاحون في القرى، وضاقتْ أبوابُ الرّزق على النّاس.. أصبحتِ الحقوقُ فوضى، من استطاعَ حيلةً في اختلاس المال سرّا أو جهرًا، استخدمها، فكثُر العيّارون، والشُّطار، والسّماسرة في المدن، وتعدَّدَ اللّصوصُ في القرى، زِدْ على ذلك، ما نجمَ عن فسادِ الأحكام من الضّيقِ المالي، وغلاءِ الأسعار في المدن، وما انتشَبَ من صراع بين الأحزاب ولاسيما السُّنة والشّيعة، وراجتِ الدّسائسُ، والأكاذيبُ، وتكاثرتِ السّعايات برجال الدّولة، وانتشرت الجاسوسية في الوزارات، وفي مكاتب كِبار الموظّفين، وفي دواوين الوزراء؛ صار لكلٍّ منهم جواسيس على الآخرين، ينْقُلون إليه أخبارهم، فتسابق أسافِلُ النّاس إلى السِّعاية بأفاضلهم، يرفعون إلى [ابن الفُرات] وإلى صاحب النّفوذ كُتبًا يَخْتلقون بها المطاعِنَ على الأبرياء للانتفاع بِأذاهُمْ، وما أكثر ما تكُون وشايتُهم بأهل الدّولة في حال اعتزالهم، أو في مَن يخافونهم إذا أُلقيَت مقاليدُ الأحكام إليهم، وقد يجتمع عند رئيس الوزراء صناديق مملوءة بتلك الكتب، فإذا تكاثرتْ أو ذهبتِ الحاجةُ إليها أحرقوها.. ولـمّا أصبحت الدّولةُ العبّاسية في ما ذكَرنا من فساد الأمور، والفوضى في التّسيير والتّدبير، وانتشار المظالم في كافّة الرّبوع، وما نجم عن ذلك من الضّيق المالي، وغلاء الأسعار، ذهبت هَيْبة الدّولة.. قارِنْ إذن بيْن حكومة [ابنِ الفُرات] وحكومة [أخنوش]، وانظُرْ إنْ كان هناك فرق؛ الجواب: لا فَرق!