محمد فارس
قد يتساءل القارئ الكريم قائلاً: وهلِ الإرهابُ مقتصر فقط على التاريخ الإسلامي؟ وهلِ الغربُ ماضيه وحاضره خالٍ من مظاهر الإرهاب وتنوُّع أشكاله؟ الجواب: سُؤال وجيه لا ريبَ في ذلك، فلا تعْجَل عليَّ من فضلِك وأَنْظِرْني أُخبِّركَ اليقينا.. فالحروبُ الصّليبيةُ كانت تعجُّ بمظاهر الإرهاب، وما ذكرهُ المؤرّخون عن مجازر [القُدس] لخيرُ دليل على الإرهاب المقيت الذي تعرّضُ له المسلمون من ذبْح، وقتْل، وحرْق، وتهجير إلى درجة أن مؤرِّخًا كان شاهدَ عِيان، لم يستطع مواصلة وصْف ما حدث فاعتذرَ عن الكتابة في هذا الشّأن واعترف بأنّه اعتراه الخجل ممّا رآه عيْـنَ اليقين.. وخلال عصْر النّهضة الذي يتبجّحون به، فإنّ فلاسفة رفضوا كل تَنويه بهذه النّهضة التي عرفتْ إرهابًا لا مثيل له، يكفي أن نذكُر ما فعلتْه الملكَة [إيزابيلاَّ] بالمسلمين، وكيف كان [تُورْكيمادَا] يُلقِي بالناس في ماءٍ يَغلي، وما صاحبَ فترة [محاكِم التّفتيش] من إرهاب وقتْل وذبْح باسم الدّين..
يقول الفيلسوفُ النّرويجي [جوستاين غاردر] في كتابه [عالم صوفي، روايةٌ حوْل تاريخ الفلسفة]، صفحة: (213): [لقد أُحْرقَ الفيلسوفُ (جيوردانو برونو) في ساحة السّوق في (روما) سنة (1600)؛ كان هذا مُرعبًا وغَبِيًا تمامًا كفعلٍ إرهابي؛ أهذا ما تسمّونه الإنسانية؟ لا، كان (برونو) وحدَه هو الإنساني، لا جلاّدوه، لقد برزت في عصر النّهضة، حركةٌ مناقضة للنهضة، تتمثّل في السّلطة القوية للكنيسة والدّولة، ذاك أنّ الأخيرةَ، كانت منتشرة كثيرًا في تلك المرحلة بالعنف والإرهاب.. لقد كان للنّهضة خلفية أخرى مظلمة؛ ليس في التاريخ مرحلة كلّها خير أو مرحلة كلّها سوء، وغالبا ما ينسجمان معًا]..
ويسوق هذا الفيلسوفُ مثالاً آخر عن الإرهاب والقتل بعدما يُسمّى (الثورة الفرنسية)، حيث يذكُر الكاتبة [ماري أُوليمْب غوج]، وهي امرأة فرنسية لعبت دورًا كبيرًا في الثورة، ونشرتْ كتيِّبات عديدة حوْل القضايا الاجتماعية، وعدّة مسرحيات، وكانت واحدة من النّساء النّادرات اللّواتي طالبْـنَ بالمساواة بين الجنسيْن حيث نشرت عام (1791) إعلانًا عن حقوق المرأة، لكنّها تجرّأت ودافعَت عن الملِك (لويس السّادس عشر)، وانتقدت في مقالاتِها (روبِسْبيِير)، فأُعْدِمَت عام (1793) بسبب رأيِها؛ ومنذ ثلاثة أشهر فقط، احتفتْ (فرنسا) براقصة اسمُها (جوزفّين بيكير) بدل الاحتفاء بذكرى هذه المرأة المظلومة والمفكِّرة المنسية (مدام أُوليمْب غُوج) وردّ الاعتبار لها وتثمين ما قامت به وإعلان براءتِها.. عندما قامت (الثورة الفرنسية)، ارتابوا في أمر أبِ الكيمياء الحديثة [لافوازييه]، وحاكَموه، ومعه سبعة وعشرون فردًا، وفي (08 مايو 1794) حوكِموا ظلمًا وأدينُوا، وأُعدِموا شنقًا؛ وعند محاكمة (لافْوازيِيه) تقدّمت زوجتُه بطلب العفو، ورفضَ القاضي طلبَها قائلا: [إنّ الثّورة ليست في حاجة إلى عباقرة]، ولكنّ زميلاً له صدحَ في المحكمة قائلاً: [إنّ قطْعَ رقبة (لافوازييه) لا يستغرق دقيقةً واحدة، ولكنّ مائة سنة، لا تكفي لتعوِّضَنا عن واحد مثْله!]؛ هذا يعطي دليلاً على ما يسمّى إرهاب الدّولة والتاريخُ يعجُّ بمظاهر هذا الإرهاب متعدِّد الأشكال والأنواع..
يقول فلاسفة التاريخ إنّنا لا نعيش عصرنا فقط، إنّنا نحْمِل تاريخَنا كلّه في ذواتِنا؛ هذا يفسّر ما قامتْ به [فرنسا] مثلاً في (الهند الصّينية)، وفي شمال إفريقيا، وفي بُلدان إفريقيا السّوداء من إرهاب، وقتْل، وذبْح، بل إنّها تعدّتْ ذلك إلى الإرهاب الثّقافي، واللّغوي، ووضعتْ أنظمةً تابعةً لها في دول تحرّرتْ صوريًا، لا فعْليًا، وبقيتْ تابعة لها سياسيًا واقتصاديًا وحكمتْ على بلدان إفريقية بالتّخلُّف والمجاعة وتفشّي الأمراض.. الشيءُ نَفْسُه يُقال في حق (أمريكا) التي أحرقتِ الناس وهم نائِمون في (ڤيتنام) والتاريخُ يذكُر مجزرة [مايْلي] في (18 مايو 1968)، كما أنّها ساندتْ أنظمةً ديكتاتورية وإرهابية في (أمريكا الجنوبية)، فكانت الديمقراطية في خدمة الدّيكتاتورية، وهذا من المفارقات التاريخية العجيبة التي يَذكُرها التاريخ؛ والآن تَراها سمحَتْ بوصول جماعة (طالبان) إلى الحُكْمِ، بعدما كانت تعتبرها جماعةً إرهابية، احتضنتْ (بنلادن) وحمتْهُ سنين طويلة.. يُقال إنّ الإرهاب لا دينَ له، وهذا صحيح بلا شكّ، وعلى هذا الـمِنوال، يمكن أن يُقال إنّ الإرهابَ كذلك لا سياسة له، ولا إيديولوجيا له، ولا جنسيةَ له؛ فكمْ من جماعات إرهابية لها مكاتب تمثيل في (أوروبّا)، ولها مقاعد في اتّحادات دولية، ولها دولٌ تدّعي مكافحة الإرهاب وهي تحتضن جماعات إرهابية..