أكد مولاي الحسن الداكي رئيس النيابة العامة، خلال تنظيم سلسلة دورات تكوينية لفائدة المسؤولين القضائيين على النيابات العامة وقضاة التحقيق ومسؤولي الشرطة القضائية حول موضوع (العدالة الجنائية وآليات تجويدها بين متطلبات تحقيق
النجاعة وتعزيز القيم والأخلاقيات المهنية) بمراكش، ان اللقاء الثاني ضمن برنامج اللقاءات التواصلية الجهوية التي تنظمها رئاسة النيابة العامة بشراكة مع المديرية العامة للأمن الوطني وقيادة الدرك الملكي في إطار تنفيذها لبرنامج غير مسبوق يروم تعزيز أواصر التعاون والتنسيق الذي يجمع هذه المكونات، كما يأتي انعقادها أيضاً في سياق تتبع تنفيذ مخرجات اللقاء التواصلي المنعقد برحاب المعهد العالي للقضاء يومي 11 و 12 يونيو 2021، والتي تمخضت عنه مجموعة من التوصيات لاسيما في الشق المتعلق بتعزيز التواصل وتشجيع عقد اللقاءات بين مكونات أجهزة العدالة الجنائية محلياً وجهوياً ومركزياً.
وقال الداكي ان هذه الدورات التكوينية التي سيستفيد منها المسؤولون القضائيون على النيابات العامة وقضاتها وقضاة التحقيق ومسؤولو الشرطة القضائية التابعون للإدارة العامة للأمن الوطني وقيادة الدرك الملكي، تشكل أحد تجليات المقاربة التشاركية التي تحرص عليها رئاسة النيابة العامة في إطار انفتاحها على كافة مكونات العدالة الجنائية إيماناً منها بكون هذه المقاربة تشكل الطريقة المثلى لمعالجة كافة المعيقات ومختلف الإكراهات التي قد تحول دون إرساء مقومات عدالة فعالة وناجزة تضمن حقوق وحريات الأفراد والجماعات. هذا الخيار الذي تتبناه رئاسة النيابة العامة في إطار مقاربتها التشاركية للقضايا ذات الاهتمام المشترك تعكسه أيضاً علاقات التعاون والتنسيق المستمر مع الرئاسة المنتدبة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في كل ما يخدم مصلحة العدالة ويعزز من قدرات المنتمين لها، وهو ما يتجلى في تعيين السيد الرئيس المنتدب لثلة من السادة قضاة التحقيق للمشاركة معنا في أشغال هذه الدورة التكوينية والاستفادة من محاورها لطرح الصعوبات التي تعترضهم في ممارستهم المهنية والتي تتقاطع مع عمل النيابة العامة والشرطة القضائية.
وتعتبر هذه الدورة التكوينية التي التئم لجمعها اليوم هذا الجمع المبارك، الثانية من نوعها بعد الدورة الأولى التي شهدت مدينة فاس أطوارها أيام 24، 25، و26 ماي المنصرم، والتي لاقت بفضل الله نجاحاً هاما تجلى في القيمة العلمية والعملية للمداخلات المقدمة، وجو النقاش الرصين والهادف الذي ساد خلالها والذي انصب في جزء منه على رصد الصعوبات العملية التي تواجه الأشخاص المكلفين بإنفاذ القانون في ممارسة مهامهم، مضيفا ولقد انبثقت عن هذه الدورة توصيات ومقترحات على درجة كبيرة من الأهمية سيكون لتنزيلها بحول الله الأثر الإيجابي على تدبير المهام المشتركة بعد إغنائها بالتوصيات الصادرة عن الدورات المقبلة. وإننا لنراهن على نجاح أشغال هذه الدورة التي تجمعنا اليوم إسوة بسابقتها والتي عكست بلا أدنى مجال للشك مستوى التنسيق العالي والتعاون المثمر بين الجهات المنظمة وسعيها الأكيد لتحقيق الأهداف المسطرة خدمة للعدالة ببلادنا.
وأشار الى أن تجويد آليات العدالة الجنائية يعد من بين أحد أهم الأهداف التي نسعى إليها جميعا من خلال هذه اللقاءات التواصلية، وهذا ما يعكس الرغبة التي تحدونا جميعا من أجل استعراض وضعية العدالة الجنائية ببلادنا والإحاطة بآليات تجويد الأبحاث الجنائية المرتبطة بها وتطوير أساليبها وتعزيز مرتكزاتها القائمة على تأهيل المكلفين بإنجازها من ضباط الشرطة القضائية والمشرفين عليها من قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق من أجل تحقيق عدالة تتميز بالفعالية وجودة الأداء. عدالة تراعي حقوق كافة أطراف الخصومة الجنائية، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تثمين وترصيد المكتسبات من جهة، ورصد مكامن الضعف وتشخيص الإكراهات التي تعترض القائمين عليها والسعي لإيجاد الحلول الكفيلة بتذليلها من جهة ثانية. هذه الغاية هي التي تجمعنا اليوم في هذا اللقاء التواصلي المهني والذي يشكل فضاء للتفكير المشترك والجماعي، مستحضرين في ذات الوقت مدى التلازم بين تطوير العدالة الجنائية وتكريس ضمانات المحاكمة العادلة، مضيفا فالبحث الجنائي يعد من المداخل الأساسية لإرساء قواعد المحاكمة العادلة التي يشكل وجوب احترمها مبدأً كونيا ودستوريا راسخاً، كما يعد آليةً تمكن الضحايا والمشتكين من بسط تظلماتهم وشكاياتهم تكريساً لتيسير الولوج إلى العدالة باعتباره من الحقوق الدستورية المكفولة للأفراد، وفي هذا الإطار فكلما حرص الشخص المكلف بالبحث الجنائي على حسن استقبال المشتكين والضحايا والتواصل معهم، وكلما سعى إلى احترام الضمانات المخولة للأطراف ومراعاة الشكليات والضوابط الإجرائية الناظمة لإنجاز الأبحاث، كلما ساهم ذلك في تعزيز ضمانات شروط المحاكمة الجنائية وأدى إلى الرفع من منسوب ثقة المتقاضين في عدالتهم.
لذلك فإنه من واجب المكلفين بإنجاز الأبحاث الجنائية والمشرفين عليها الحرص على ضمان تمتع المشتبه فيهم بكافة الضمانات التي خولها لهم القانون، من قبيل إشعارهم بالأفعال المنسوبة إليهم، والحق في التزام الصمت، والحق في المساعدة القانونية، والحق في مؤازرة الدفاع، واحترام مدة الوضع في الحراسة النظرية وضوابط تمديدها والاستفادة من التغذية واحترام الكرامة الإنسانية، وما إلى ذلك من الضوابط المؤطرة للبحث الجنائي، على اعتبار أن الإخلال بهذه الحقوق يشكل أساسا للدفوع الشكلية التي قد يثيرها الدفاع أثناء المحاكمة فضلاً عما تشكله من مساس بالضمانات الأساسية لشروط المحاكمة العادلة، وهو ما قد يترتب عنه التصريح ببطلان المحاضر أو الإجراء المعيب، علماً أن هذه الإخلالات قد تكون في بعض الأحيان مدخلا لتقديم تظلمات أو شكايات أمام القضاء الوطني أو بلاغات فردية أمام المؤسسات والهيئات الدولية المعنية بحقوق الانسان مع ما قد ينجم عن ذلك من تداعيات سلبيات على صورة العدالة ببلادنا على الرغم من المجهودات الجبارة التي يتم بذلها في سبيل تكريس حماية الحقوق والحريات وتفعيل شروط المحاكمة العادلة وفق ما ينص عليه دستور المملكة والمواثيق الدولية ذات الصلة بالموضوع.
كل ما سبق بيانه يبرز بشكل واضح الأهمية القصوى التي يحظى بها البحث الجنائي باعتباره أحد المقومات الأساسية للعدالة الجنائية وأحد المؤشرات التي يَرْكَنْ إليها كل متتبع لها بما في ذلك الدفاع وأطراف الخصومة لتقييمها، وهذا ما يتطلب منا جميعاً تقييم واقع إنجاز الأبحاث الجنائية، من خلال عملية تشخيص دقيق لهذا الواقع نثمن من خلاله المكتسبات والممارسات الجيدة، ونرصد من خلاله أيضا الصعوبات التي قد تعيق إنجازها بالشكل المطلوب، ومن دون شك فأنتم من خيرة المسؤولين الساهرين على إنفاذ القانون، لكم من التجارب المهنية ما يكفي لبلورة تصورات وأفكار قادرة على إيجاد الحلول للإشكاليات القانونية والواقعية واقتراح الحلول الكفيلة بتجاوزها والرفع من نجاعة عدالتنا وفق ما نصبوا سواء كمدبرين للعدالة أو كمواطنين أيضاً.
حضرات السيدات والسادة؛
لا يخفى على حضراتكم أن البحث الجنائي يشكل أحد أهم ركائز المحاكمة الجنائية ويظهر ذلك من خلال الحجية التي أضفاها المشرع المغربي على محاضر الشرطة القضائية لا سيما في الجنح بمقتضى المادة 290 من قانون المسطرة الجنائية، وأمام هذه القيمة القانونية التي أضفاها المشرع على عمل ضابط الشرطة، فإن ذلك يقتضي إبراز دور المحقق الذي ينبغي أن يبادر إلى تجميع كافة المعطيات الضرورية للبحث واستخلاص الأدلة المفيدة من مسرح الجريمة بشكل احترافي وإدارة عملية الاستماع لأطراف القضية بمهنية عالية، وأن يبرز مجهوده الشخصي في كل ما قام به من إجراءات من أجل إظهار الحقيقة، بما يُمكن من إنجاز محضر قانوني يمكن للعدالة أن تركن إليه كوسيلة إثبات للوقائع المعروضة عليها من جهة، وبالشكل الذي يجعل ذلك المحضر يعكس مستوى المؤهلات العلمية والمهنية التي يتسم بها ضابط الشرطة القضائية الباحث وذلك حتى يتأتى اعتماده من طرف كل ضابط للشرطة قضائية خلال ممارسته لمهامه كمحضر نموذجي يمكن الاستئناس به في الأبحاث التي يقومون بها.
وإذا كانت مظاهر وأساليب ارتكاب الجريمة أصبحت تتخذ طابعا أكثر تنظيماً مستغلة في ذلك التطور التكنولوجي الذي عرفه العالم والذي أفرزه بروز أشكال مستحدثة من الجرائم، فإن ذلك يقتضي تطوير مهارات وقدرات الأشخاص المكلفين بإنجاز الأبحاث الجنائية والمشرفين عليها من خلال اعتمادهم للوسائل العلمية والتكنولوجية الحديثة لفك ألغاز الجريمة وملاحقة المجرمين واعتماد الخبرات التقنية والعلمية بمختلف أشكالها وتقوية مهاراتهم للتعامل مع الأدلة الرقمية وأخذ العينات من مسرح الجريمة بشكل يحافظ على آثارها ويكون مفيدا للبحث.
وفي هذا الإطار أود أن أشير إلى أن القضاء المغربي أصبح يعتمد في العديد من أحكامه على الدليل العلمي كوسيلة إثبات في بعض الجرائم التي قيدها القانون بشكليات معينة كما هو الشأن بالنسبة لجريمة الخيانة الزوجية التي اشترط القانون لإثباتها إما حالة التلبس أو الاعتراف حيث لم يعد مقيداً بهذه الشكليات في ظل التطور التكنولوجي الذي يمكن أن يساعد في إثبات هذا النوع من الجرائم، حيث اعتمد تسجيلات الكاميرات كوسيلة لإثبات الخيانة الزوجية، كما اعتمد أيضا الخبرة الجينية كوسيلة لإثبات جرائم العرض.
هذه الأمثلة وغيرها دليل على الأهمية القصوى التي بات يشكلها الدليل العلمي في مجال الأبحاث الجنائية وباعتباره أيضا من وسائل الإثبات التي يمكن أن تركن إليها هيئة المحكمة لتكوين قناعتها الوجدانية، وهذا ما يقتضي من أجهزة إنفاذ القانون مواكبة التطور التكنولوجي والرقمي ومهارة توظيفه في مجال محاربة الجريمة.