منذ بداية ستينيات القرن الماضي التي تزامنت مع مستهل سنوات المغرب المستقل، أوْلَى المغفور له، الراحل الحسن الثاني الاهتمام بالقطاع الفلاحي وخصص للأمن الغذائي الوطني، بعد الاستقرار الأمني، سياسة بناء السدود، إيمانا منه بأن الماء الذي خلق منه الله كل شيء حي، يشكل ثروة، ستضاهي أهم الثروات المعدنية والطاقية في مستقبل، لا يتعدى مداه أربعين سنة، على الأكثر. في الجهة المجاورة شرقا، على بعد أقل من “خطوتين”، من وجدة، كان ثاني رؤساء الجارة الجزائر بُعيْد استقلالها الذي ساهم فيه المغرب بكل الأشكال، بوخروبة (هواري بومدين) الذي اعتنق الناصرية بالأحضان وبِنهم وشراهة، يسخر من المغرب بزعمه أنه بلد سيعتمد في اقتصاده ومستقبله على الطماطم، فيما بلاده بغازها وبترولها ستتجه إلى التصنيع والتسليح وتُخرج الجزائريين من جحيم الحاجة والعوز إلى نعيم الخير والرفاه.
مرت السنون واستمر المغرب بـ”طَماطمه” وباقي الخضر والفواكه والمزروعات، يحقق اكتفاءه الذاتي وأمنه الغذائي وينفتح على التصدير، يبني ويشيد غير السدود، صُروحا أخرى من العمران والحضارة، ومغربا حديثا بكل المواصفات، يحقق النمو في الاقتصاد اعتمادا على القطاع الفلاحي وغير الفلاحي، بالصناعات التحويلية والغذائية والسياحة والصادرات والصناعات العالمية والموارد المادية واللامادية، وفي نفس الوقت، يبني تدريجيا، مغربا على أسس الديمقراطية والحريات ومختلف الحقوق، في حين ظلت، في الضفة الأخرى؛ الجزائر، تزرع فقط، الرياح لتحصد طواحين خيبات إيديولوجية اشتراكية و”ناصرية” سرعان ما انهارت لتعرّي على واقع “بلاد” تَحكَّم حكامُها في خيراتها واعتمدوا، في كل شيء، على الاستيراد والاستعباد وضحكوا على العباد.
عشرون سنة أو أكثر بقليل، كانت كافية ليفتضح مستور الجزائر وحكامها، حين كشفت ثورة “الخبز” التي انتفض فيها حرائر الجزائر وأحرارها، في ثمانينيات القرن المنصرم، عن الحجم الكبير لحاجة إخواننا الجزائريين إلى كسرة خبز يومية، أكثر من حاجتهم إلى كماليات من موز وتفاح وبرتقال ولحوم وأسماك تعج بها موائد الأسر في أدنى الطبقات الاجتماعية بالمغرب، وتسيل لُعاب جيرانِنا حرمانا وأحلاما. أما حاجتهم القصوى إلى الماء الشّروب وغير الشّروب، فيكشفها حجم الخصاص المهول الذي هو عليه بلاد الغاز والبترول إلى اليوم، يؤكده أن الجزائري إذا فتح صنبورا هنا، فإن جاره ذا الجنب، لن يسكب صنبورُه قطرةَ ماء واحدة، أما إذا كان جزائري يستحم في “دوش” بالطابق السفلي لفندق مصنّف، فإنه يقطع نعمة الماء على باقي غرف هذا الفندق وفي كل طوابق البناية.
بما يفوق أربعين سدا و”حبّات” من البَندورة (الطماطم) – وليعتبرها “خَاوَتُنا” خُضَارا أو فاكهة – استطاع المغرب اليوم أن يحقق ما لم تستطع آبار البترول والغاز الدافقيْن تحقيق النزر القليل منه، من البنيات التحتية في الجزائر، من طرق سيارة وسكك فائقة السرعة وموانئ ومطارات عملاقة وجامعات ومعاهد بمعايير دولية وغيرها، تعدتْها إلى بنيات الترفيه والرياضة والثقافة من مسارح وملاعب ومركبات وفضاءات وفنادق ومرافق سياحية.
على ذكر الملاعب والتجهيزات الرياضية، إذا كان الصغير منا، قبل الكبير يتذكر كيف كانت البطلة حسيبة بولمرقة والبطل نورالدين مورسلي يفرّان من الحاجة الماسّة للجزائر في البنيات الرياضية إلى بنيات آخر طراز من التجهيزات المغربية، في أعالي إفران وآزرو ومركبات البيضاء والرباط استعدادا للبطولات الدولية لألعاب القُوى، فإن الكنفدرالية الإفريقية لكرة القدم أجهزت، قبل أيام، على ما تبقى للجزائريين من كبرياء يتبخترون به في خانة “منجزات رياضية هامة” تحقّقتْ فقط، على حساب” الحاجة أمّ التألق” وكفى.
لا ولن يرضى جزائريٌ أصيل أو عربي قح أن تمنع هذه الكنفدرالية فريقين جزائريين بطلين (وفاق سطيف وشباب بلوزداد) من امتياز استقبال منافسيهما في إطار عصبة الأبطال الإفريقية، فقط لأنهما لا يتوفران على ملعبين بمواصفات حددها دفتر إفريقي للتحملات، بشروط توفير السلامة الصحية والراحة للاعبي الفرق المتنافسة، في كأس هذه العصبة، ولا على مراكز إيواء وفنادق في مستوى استضافة الفرق ذاتها، أو على وسائل نقل محترمة لنفس الغاية.
يعلم القاصي والداني أن ملعب “8 ماي 1945” بسطيف، وملعب “20 غشت 1955” الذي يستقبل به بلوزداد، تركةً فرنسية بأرضية مُتربة لم يلجْها التعشيبُ الاصطناعي إلا بعد 1972، و يرحم الله الفكر السوفياتي المتخصص في هذا النوع من العشب كما يرحم الأيادي اليوغسلافية والرومانية والبلغارية، التي كدّت في تجهيز هذين الملعبين وإصلاحهما، ليظلا على حالهما إلى اليوم، دون أن يرقيا إلى ملعبين بعشب طبيعي ومرافق محترمة، فقط لأن فاتورة الكلفة المائية لسقي أرضيتهما تقض مضاجع حكام بلاد الغاز والبترول، أكثر من المسؤولين عن الكرة الجزائرية ومسؤولي فريقي سطيف وبلوزداد.
تُرى ما الذي منع الجزائر من أن تكون بملاعب بمواصفات عليا، أما المطارات، فالصورة التي ظهر عليها مطار الهواري بومدين من البؤس والاهتراء، والرئيس تبون وقائد الأركان شنقريحة يستقبلان المنتخب الجزائري المتوّج مؤخرا بكأس العرب، بحُفنات من الفول السوداني (كاوكاو)، كافية جدا لمعرفة معادلة الطماطم والسدود مقابل الغاز والبترول.
محمد عفري