محمد فارس
ماذا لوِ انقلبتِ السّياسة فأصبحت نشاطًا علميًا خالصًا بكلّ مَنهجية العِلم ودقّتِه؟ لو حدث هذا لَتغيّرتْ أشياء كثيرة ولتقدَّمتْ قطاعات عديدة ومنها قطاع التّربية والتّعليم الذي صار ميدانًا يلعب فيه الصّغار، ويحدِّد سياستَه التّجار، ثمّ ما دَخْل التّجار في ميدان التّعليم؟ فما أردتُ أن أقوله هو أنّ المذاهب السّياسية في عصرنا قد أخرجت جانبَ التّخطيط والتّنفيذ من مجال السّياسة ليتولاّه العُلماء، والفنّيون، والخُبراء، والباحثون؛ ولكنْ في بلادنا فالتّجار الذين انحشروا في السّياسة لا يطيقون أن تُوكَل شُؤُون البلد إلى أسلوب العِلم، والبحث، ويفضِّلون في تلك الشّؤُون أسلوبَ التّجارة، والسّمسرة، والبيع والشّراء، وهو ما يؤكّد أنّ الأشياء في بلادنا قد صارت تُلتَمس بغير أسبابِها، وماذا تنتظر والحالةُ هذه من وزير لا علاقةَ له بالتّربية والتعليم لا من قريب ولا من بعيد، واللّعنات التي قد تصيب أمّةً هو أن تُوكَل أمورٌ إلى غيْر أهلها، وقد صار قطاعُ التعليم، بل الوظيفة العمومية برمّتها سوقًا محرَّمًا ولوجُها على كلِّ من تجاوزت سِنُّه (30) سنة، ومسألةُ السِّن، والبشرة، وأوصاف أخرى مِمّا لا دَخْل فيه للإنسان، يسمِّيها الفيلسوفُ الألماني [كارل ياسبيرز] بالمواقف النّهائية، ومن العبث مناقشة هذه المواقف؛ فما ذَنْبُ الفرد أن يُولدَ في سَنة (كذا)، فتصيرُ سِنُّه (؟) في سَنة (كيت)؟ ما ذَنب الفرد أن تكون بشرتُه سوداء مثلاً فيُقصى من عدّة حقوق بسبب العنصرية؟ أليس هذا ما هو جارٍ اليوم في بلادنا؟
كان على وزير التعليم أن يكون عضوًا في المكتب الإداري لفريق [ريال مدريد] الذي يرفض التّعاقُد مع أيّ لاعب تجاوزتْ سِنُّه الثلاثين؛ وهذه الفيلسوفة الوجودية [سيمون ذي بوڤْوَار] تقول في كتابها بعنوان: [La vieillesse] أي (الشّيخوخة) إنّ الإنسان خلال الثلاثينيات من عُمره تبدأ قدراتُه العَضلية والجسمانية في التّراجع، لكن هذا التّراجُع يعوَّض بقوّة عقلية وفكرية لا يمكن إنكارهُما وأعطتْ أمثلةً بعلماء، وفلاسفة، ومفكّرين، وصلوا إلى مستوى العبقرية خلال الأربعينيات من عمرهم، فأيُّ جودة ينشدها وزيرُ التعليم في ما دون الثّلاثين من العمر؟ فهل هو أعْرفُ من المفكّرين في هذا الميدان أم هو حريصٌ على قرار تمّ إملاؤُه عليه من طرف جهة ضاغطة الله أعلمُ بأهدافها الدّفينة؛ فلو كان الأمرُ كذلك كان على الوزير أن يقدِّمَ استقالتَه لئلاّ يُسْأل عن ذلك في الدّنيا والآخرة.. وجاء أحدُ [الطّبالة] ليقول: [وهل سَنُوظِّف مواطنًا في الخمسين من عمره ليشتغل عَشر سنوات فيتقاعد في السّتين؟]، ونحن نقول له: كفاكم، كذبًا وخداعًا، وهل سمعتَ يومًا في العالم أو في (المغرب) فردًا يوظَّف في الخمسين من عمره؟ هل تخاطِبون أنامًا أم أنعامًا يا هذا، ثمّ مع مَن تتحدّث بِطَبْلِك (الـمَهْتوك) والـمُهترئ؟!
ثمّ إنّ وزيرَ التعليم الذي انتصب كقضاء وقَدَرٍ في هذه الوزارة المنكوبة، يقول إنّه يريد الجودةَ في التّعليم، ولكنْ ما العلاقة بين الجودة وبيْن مَنْع مَن تتجاوز أعمارُهم الثّلاثين سنة؟ الجودة يَضمنُها تكوينٌ جيّد، ومؤطّرون مؤهَّلون، ومدارسُ كفأة، ومباريات نزيهة خالية من [البّاك صاحبي]، لكن لماذا لا يُتَّخذ هذا القرارُ في مجال التّرشيح لانتخابات البرلمان ومجلس المستشارين وهما قُبّتان مُلِئَتَا بالعَوام، والجهَلة، والمسنّين؟ لماذا لا تبدأ بنفسِك وتنسحب من الوزارة لأنّك تجاوزتَ الثّلاثين؟ لماذا لا يَقوم رئيسُ الحكومة بتقديم استقالتِه وقد ناهزَ السّتين أمْ قرارُكَ يخصُّ فقط أبناءَ الشّعب ويَستثني تجّارَ وسماسرةَ الحكومة؟ فالقانون لا يكون عادلاً إلاّ إذا امتاز بالشّمولية والتّعميم..
هذا القطاع هو مِلكٌ للأمّة والشعبِ، ومفتوحة أبوابُه أمام كلّ الكفاءات المغربية بغضّ النّظر عن سِنّها؛ والشّعب يَرفض أن يُخَوصَصَ مجالُ التربية والتعليم، فكلّ كفاءة مرحّب بها، ومرفوضةٌ كلُّ ديكتاتورية ينهجها وزيرٌ، وكلّ عنصرية مقيتة تُدْرجُ تحت شعار زائف من قبيل التّنمية، والإصلاح، والجودة، و[Tralalas]، و[Blablas] وقِسْ على ذلك مِمّا يتذرّع به التجارُ المتربِّصون بهذه الأمّة.. إنّ الوسائل لا يجب أن تكون في أيدي الباعة والتّجار الذين دخلوا ميدانَ السّياسة وخدعوا النّاخبين بِقُفَف رمضان وبوعود زائفة وشعارات كاذبة وأُنيطتِ المسؤوليات بغير أهلها وأُديرتْ شؤونُ الأمّة بأحطّ رجالِها وبأبغض ديكتاتورييها، يسُومون المواطنين سَوْطَ عذاب، وقد صار كلُّ قطاع وكل وزارة ضيعةً أو مِلْكيةً خاصّة، فيما العمليات التّنفيذية والقرارات كلُّها وفي شتى الميادين يجب أن تكون في أيدي العلماء، والمفكّرين، ولا دَخْل لِلحزبية والتّجارةِ في ذلك؛ وهذا [فرانسيس بيكون] تَخيّلَ مدينتَه الفُضْلى أسماها [أطْلنطِس الجديدة] وُزراؤُها علماء؛ وهذا [أفلاطون] أراد أن يكون الوزراءُ فلاسفةً لا تُجّارًا و[بَزْناسة]..