هذه السنة ومثل كل سنة راسل المجلس الأعلى للحسابات كل المعنيين بالتصريح بالممتلكات قصد القيام بجرد لممتلكاتهم ووضعها رهن إشارته في الآجال المحددة، ومبدأ “التصريح بالممتلكات” مرتبط في جزئية من جزئياته بالمبدإ الدستوري “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، حيث تتم محاسبة الموظف على الاختلالات كما تتم محاسبته على الاغتناء غير المشروع. فدور “التصريح بالممتلكات” هو منع مراكمة الثروة عن طريق الوظيفة العمومية.
فاغتناء أي موظف عمومي يعني أن مصدر الأموال الفائضة ليس هو راتبه الشهري، وهنا لابد من مساءلته عن مصدرها، الذي ينبغي أن يصرح به فقد يكون إرثا مثلا، ولكن قد يكون ابتزازا واستغلالا للنفوذ.
منذ نشأة المجلس الأعلى للحسابات ومنذ إقرار مبدإ “التصريح بالممتلكات” لم نسمع أن هذا المجلس اتخذ إجراءً مثلا ضد موظف من الموظفين لأنه اغتنى خارج القانون، بل إنه ما زال يتعامل بطريقة تقليدية مع مبدإ التصريح، حيث يطلب من الموظفين تزويده بجرد لممتلكاتهم، بطريقة تشبه “التصريح بالشرف”، ويتم وضعها في “مظروف” يُغلق ويُشمع إلى حين، وهذا “الحين” لا يحين أبدا، على الأقل في حدود ما هو معروف لدى الجميع، بمعنى أن الموظف هو الذي يقوم بجرد ممتلكاته بنفسه يضع فيها ما يشاء ويزيح منها ما يشاء، لأن الرقابة لا تكون إلا في حال وقوع مشكل ما.
يتحجج المجلس بعدم المراقبة الشاملة بعدم توفره على الآليات والإمكانيات لذلك. لكن القضية ليست بهذا الشكل. ليس مطلوبا من المجلس أن يقوم بمراقبة كل موظف موظف، وهذا لا يحصل في أي مجال. لكن هناك نموذج “لاراف”. معناها تنظيم دوريات أمنية، في الغالب تخضع لمنطق واحد هو مراقبة بعض الأحياء التي تكون فيها الجريمة مرتفعة، ومن خلال مراقبة الهوية يتم ضبط كثير من المجرمين والفارين.
المجلس يمكن أن يركز على الوزارات التي يكثر فيها الفساد، أو التي توجد بها شبهة فساد. مثلا اليوم الكل يتحدث عن وزارة الصحة وكثرة الصفقات غير المراقبة. يمكن مراقبة بعض الموظفين والتحقيق في ممتلكاتهم، وهذا لا يعني اتهاما لهم ولكن واجب من واجبات المجلس يقوم بها.
فلو أن المجلس يقوم كل سنة ببحث عينات من الموظفين، ويطلع الرأي العام على نتائج التحقيق، لخف أمر الاغتناء الفاحش من خلال استغلال المنصب. وعندما ينهي المجلس التدقيق في ممتلكات أي موظف يخبر المواطنين بالنتائج، فقد يكون موظف اغتنى من الفساد فيحال على الجهات المعنية، ويكون موظف آخر اغتنى بفعل مال زائد ناتج عن عائد معين كالإرث مثلا، وهنا سيصبح الجميع منتظرا لوصول دوره في التحقيق، ولن يبقى مرتش في سلك الموظفين إلا من هو منحرف أصلا.
لكن بالطريقة الحالية لن تكون هناك نتيجة مُرضية بل مَرضية وسيستمر الاغتناء غير المشروع على حساب المال العام أو استغلال المنصب لابتزاز المواطنين والمرتفقين أساسا.