مصطفى المنوزي
تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحولات جذرية تعكس أزمات متشابكة على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والدينية. هذه التحولات لا يمكن فهمها إلا من خلال تحليل العوامل الرئيسية التي شكلت الواقع الحالي، ومن أبرزها “أمننة السرديات الدينية”، و”الاقتصادات الريعية”، و”سقوط الشام والرافدين”. هذه العوامل ليست منفصلة، بل تشكل شبكة مترابطة من الأزمات التي أدت إلى تفاقم الفوضى والاستقطاب الطائفي في المنطقة.
1- أمننة السرديات الدينية: من العقيدة إلى التهديد الأمني
لقد أصبحت القضايا الدينية تُعالَج في كثير من الأحيان كمسائل أمنية، وهو ما يُعرف بـ”أمننة السرديات الدينية”. هذا التحول يعزز الاستقطاب الطائفي ويحول الصراعات العقائدية إلى تهديدات للأمن القومي، فبدلًا من أن تكون الديناميات الدينية جزءًا من النسيج الاجتماعي، يتم تصويرها كمصدر للخطر، مما يزيد من حدة التوترات الطائفية. وفي هذا السياق، استغلت جماعات مثل داعش والإخوان المسلمين الفراغ السياسي والأمني في دول مثل العراق وسوريا. فبعد سقوط بغداد عام 2003 وانهيار مؤسسات الدولة السورية مع بداية الحرب الأهلية في 2011، ظهرت حالة من “الفوضى الأمنية” سمحت لهذه الجماعات بتعزيز نفوذها. هذه الجماعات قدمت نفسها كبديل للنظام الهش، مستغلةً الصراعات الطائفية والانهيار المؤسساتي لترسيخ وجودها.
2- الاقتصادات الريعية: الفساد والاستبداد كأرضية للتطرف
لقد لعبت الاقتصادات الريعية دورًا محوريًا في تفاقم الأزمات في المنطقة. الدول التي تعتمد بشكل رئيسي على الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز تعاني من غياب التنمية المستدامة في القطاعات الأخرى. هذا الاعتماد يعزز الأنظمة الاستبدادية التي تسيطر على الموارد وتوزعها على النخبة السياسية، مما يخلق بيئة مواتية لتفشي الفساد.
هذه الأنظمة الاقتصادية زادت من الفقر والبطالة، وخلقت يأسا وإحباطًا اجتماعيًا بين الشباب، مما يجعلهم عرضة للتجنيد من قبل الجماعات المتطرفة. في العراق وسوريا، على سبيل المثال، ساهمت هذه العوامل في انتشار التطرف، حيث وجدت الجماعات المسلحة أرضًا خصبة للتوسع وسط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
3- سقوط الشام والرافدين: انهيار الدولة الوطنية
لقد أشر “سقوط الشام والرافدين” إلى انهيار النموذج التقليدي للدولة الوطنية في العراق وسوريا. هذا الانهيار لم يقتصر على تفكك المؤسسات الحكومية فحسب، بل أدى أيضًا إلى تفشي الفراغ السياسي والأمني، مما فتح الباب أمام الصراعات الطائفية والعرقية. ففي العراق، أدى تدمير الدولة بعد الغزو الأمريكي عام 2003 إلى صراعات طائفية عميقة. وفي سوريا، أدت الحرب الأهلية التي بدأت في 2011 إلى تفتت الدولة وبروز جماعات مسلحة متطرفة. هذا التفكك خلق عقدة جيوسياسية تتعلق بهوية المنطقة وأسباب تدهورها، مما جعلها عرضة للتدخلات الخارجية والصراعات الداخلية.
4- التدخلات الإيرانية والصراعات الإقليمية
لا يمكن إغفال دور إيران في تعميق الانقسامات الطائفية في المنطقة. من خلال دعمها لجماعات شيعية في العراق وسوريا واليمن، ساهمت إيران في زيادة التوترات السياسية والأمنية. هذا التدخل عزز الاستقطاب الطائفي وجعل الصراعات أكثر تعقيدًا، خاصة في ظل وجود اتفاقيات مثل “اتفاقية أبراهام” التي عززت التحالفات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، مما زاد من حدة الاستقطاب في المنطقة.
5- تداعيات ارتداد ثورات الربيع العربي الفاشلة:
في ضوء الأزمات المتشابكة، تبرز تداعيات ارتداد ثورات الربيع العربي الفاشلة التي كانت تهدف إلى التغيير والإصلاح، إلا أن معظمها واجه مقاومة شرسة وتحولات نحو الفوضى. فبعد السقوط السريع للأنظمة، لم تتمكن أغلب الدول التي شهدت الربيع العربي من استكمال مسار العدالة الانتقالية، وهو ما أدى إلى استمرار الصراعات السياسية والاجتماعية. هذه الثورات التي أفرزت التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، ساهمت في تأجيج الاستقطاب الداخلي، مما جعلها أرضًا خصبة للمجموعات المتطرفة.
6- تباشير عودة القطبية المتعددة وتردد مؤشراتها
توازيًا مع هذه التحولات، نشهد تباشير عودة القطبية المتعددة في الساحة الدولية، حيث تبرز القوى الكبرى على الساحة، مما يخلق ديناميكيات جديدة للصراعات الإقليمية. ومن ناحية أخرى، تزداد مؤشرات التردد في تفاعل القوى الكبرى مع قضايا الشرق الأوسط، سواء من خلال قنوات الدبلوماسية أو التدخلات العسكرية المحدودة. هذا الوضع يخلق حالة من الضبابية والتأرجح في السياسات الإقليمية، مما يضاعف من تعقيد الأزمات السياسية والأمنية.
7- السياق الإفريقي: تأثيرات متبادلة
لا تقتصر الأزمات على الشرق الأوسط فحسب، بل تمتد إلى شمال أفريقيا، حيث تؤثر التحولات في إفريقيا، مثل انتشار الجماعات الجهادية، على الوضع في العالم العربي. الهجرة والنزاعات في إفريقيا تسهم في تفاقم الأزمات الأمنية والاجتماعية في المنطقة العربية، مما يخلق ديناميكيات جديدة من الصراع.
وإذا نظرنا إلى هذه العوامل مجتمعة، نجد أنها تشكل شبكة مترابطة من الأزمات: من أمننة السرديات الدينية التي تؤجج الصراع الطائفي، إلى الاقتصادات الريعية التي تخلق بيئة اجتماعية هشة، إلى انهيار الدولة الوطنية الذي يفتح المجال للجماعات المتطرفة. هذه العوامل مجتمعة ساهمت في تفاقم الأزمات السياسية والأمنية في المنطقة، وزادت من تعقيد الوضع، لتؤدي إلى سلسلة من التحولات البنيوية التي جعلت الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعانيان من فوضى دائمة، مع تعزيز الاستقطاب الطائفي والتمزق الداخلي.
ومن أجل فهم هذه الأزمات، قمنا بمقاربة الأوضاع مقاربة تأخذ بعين الاعتبار التفاعلات المعقدة بين العوامل الدينية والاقتصادية والسياسية، والتي تشكل معًا الواقع المرير الذي تعيشه المنطقة اليوم؛ مما يضع المغرب أمام تحديات عظمى أولها ضرورة خلق شروط الصمود والمقاومة من أجل فك الحصار عن وطننا المطوق كجزيرة قدرها أن تواجه توترات الجوار وتداعيات الاستعمار ؛ في ضوء التطورات الجيوستراتيجية الأخيرة، خاصة مع عودة دونالد ترامب إلى الساحة السياسية الأمريكية، تجدر الإشارة ألى ضرورة تحيين التحليل بتناول تأثير سردياته الاقتصادية والأمنية على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.؛ فهذا الرئيس الجمهوري المتمرد على حزبه وأعرافه ، والذي يتميز بخطاب قومي اقتصادي وأمني قوي، يعيد طرح سياسات “أمريكا أولاً”؛ التي قد تؤثر بشكل كبير على التوازنات الإقليمية والدولية.
فعودة ترامب إلى الساحة السياسية الأمريكية تضيف كتلة جديدة من التعقيد إلى الوضع الجيوستراتيجي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ فهو المشهور بمخاطراته المتهورة ؛ حيث اعتاد المحللون على غرابة سردياته الاقتصادية والأمنية ، المتوقعة ؛ والتي قد تؤدي إلى تغييرات كبيرة في السياسات الأمريكية تجاه المنطقة، مع تداعيات محتملة على الاستقرار السياسي والأمني. وفي هذا السياق، يجب على محللي دول المنطقة أن يعيدوا تقييم استراتيجيات دولهم ومراكزهم البحثية ؛ خلال كل يوم ؛ فهو دائم التردد والغموض ؛ والمراجعة والتحيين ضرورين لمواجهة التحديات الجديدة والمتجددة ، مع التركيز على وجوب تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة. وهو الموضوع الذي سنخصص له حيزه ؛ وذلك في أفق استكمال التحليل الذي بمقتضاه سيتم تسليط الضوء على أهمية فهم التفاعلات المعقدة بين العوامل الداخلية والخارجية ، والتي تشكل الواقع الجيوستراتيجي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصة في ظل التطورات السياسية الأخيرة على الساحة الدولية.
منسق دينامية ضمير الذاكرة وحوكمة السرديات الأمنية .