في خطوة تعكس تصعيداً جديداً في سياسة التحكم بالرواية التاريخية، أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الجزائرية تعليمات صارمة تمنع الأساتذة الجامعيين المتخصصين في التاريخ من التصريح لوسائل الإعلام الأجنبية، دون إذن مسبق، وذلك في إطار ما يبدو أنه مسعى رسمي لحصر الخطاب التاريخي داخل حدود السردية الرسمية المعتمدة من قِبل السلطة.
وجاء هذا القرار في وثيقة داخلية صادرة عن كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعة حسيبة بن بوعلي بولاية الشلف (غرب الجزائر)، موجَّهة إلى أساتذة قسم التاريخ، وتنص على ضرورة الامتناع عن تقديم تصريحات أو المشاركة في مقابلات مع وسائل الإعلام الأجنبية، مكتوبة كانت أو مرئية أو رقمية، ما لم يصدر ترخيص صريح من إدارة الجامعة.
وبرّرت الكلية هذه التعليمات بكونها “تندرج ضمن التنظيمات المعمول بها في مؤسسات التعليم العالي، وحرصاً على حماية صورة المؤسسة وضمان انسجام الخطاب الأكاديمي مع التوجيهات الرسمية للدولة”، بحسب ما ورد في نص الوثيقة.
وتأتي هذه التطورات في سياق حملة أوسع تشنها السلطات الجزائرية ضد ما تعتبره روايات “مضللة” حول تاريخ البلاد، لا سيما تلك التي تنتقد نشأة الدولة بعد الاستقلال عام 1962 أو تتناول طبيعة الحدود الموروثة عن الحقبة الاستعمارية. وقد تزامنت هذه الإجراءات مع اعتقالات ومحاكمات طالت عدداً من المثقفين والكتاب المعروفين، بينهم الكاتب بوعلام صنصال والمؤرخ محمد الأمين بلغيث، فضلاً عن إصدار مذكرتي توقيف دوليتين في حق الكاتب كمال داوود.
وذكرت تقارير إعلامية أن السلطات الجزائرية اعتقلت صنصال بسبب تصريحاته التي تحدث فيها عن كون مناطق من شرق الجزائر كانت تابعة للمغرب قبل أن تضمها فرنسا للتراب الجزائري خلال الحقبة الاستعمارية، في حين اعتُقل المؤرخ بلغيث على خلفية مشاركته في برنامج بثته قناة “سكاي نيوز عربية”، تطرق خلاله إلى موضوعات مرتبطة بالهوية التاريخية للمنطقة المغاربية.
أما كمال داوود، صاحب رواية “حوريات” التي فاز عنها بجائزة “غونكور” لعام 2024، فقد صدرت في حقه مذكرة توقيف دولية على خلفية ما وصفته محاميته بـ”دوافع سياسية”، بسبب التطرق إلى مجازر “العشرية السوداء” في روايته.
ويرى مراقبون أن النظام الجزائري، منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى السلطة وتعيين الفريق السعيد شنقريحة على رأس أركان الجيش أواخر 2019، يتبنّى خطاباً تاريخياً مغلقاً، يستبعد الروايات النقدية أو غير المتطابقة مع “الشرعية الثورية” التي يستمد منها النظام الحاكم مشروعيته السياسية. وتُوظف هذه السردية في بناء خطاب الهوية الوطنية، بما في ذلك قضايا متعلقة بترسيم الحدود والهوية الأمازيغية والعربية، ودور فرنسا الاستعمارية في تشكيل الدولة الجزائرية الحديثة.
ويُذكر أن الجزائر أُنشئت ككيان سياسي حديث في 1962، عقب استفتاء لتقرير المصير رعته فرنسا بعد 132 عاماً من استعمارها المباشر للبلاد، وقبلها ثلاثة قرون من التبعية للسلطنة العثمانية، وهو ما يجعل ملف التاريخ حساساً في الداخل الجزائري، وموضوعاً شديد التوتر في علاقاتها مع دول الجوار، لا سيما المغرب وتونس.