محمد فارس
في سنة (1812) كانت [روسيا] تعيشُ هواجسَ مِحْنة تاريخية، وأُعْلِنت حالةُ الاستثناء بسبب خطر اجتياح [نابليون] وجيشِه الكبير للبلاد، فخرجَ الشّعبُ الرّوسي إلى الشّوارع، مُطالبًا بإقالة وزير الدّفاع، وقائد الجيش، ومستشار القيصر [أليكساندر الأوّل] بسبب فشله وإخفاقاتِه المتكرّرة بعْد هزيمة الجيش الرّوسي في معركة [بورودِينُو]، فقرّر القيصرُ إقالةَ هذا الوزير، والقائد، والمستشار، وكان يسمّى [بارْكلي دِيتُولي] من منصبه؛ كان الشعبُ يطالب بعودة [كوتوزوف] الذي أُحيلَ على التقاعد، وكان قد تجاوزَ (70) من عمرِه، ولكنّ القيصر كان يكرهه، ومع ذلك ناداه وأعاده إلى الخدمة ما دام الشعبُ يطالب بعودتِه.. قالت الزّبانية المقرّبة من القيصر: [ما هذا يا جلالة الملك، كوتوزوف يحلّ مكانَ بارْكلي ديتولي؛ وباركلي ومَن هُوَ؟]، أجاب القيصر: [لقد أعطيت الشّعبَ ما أراد، والشّعبُ سيتعاون مع كوتوزوف، ولن يتعاون مع باركلي الذي يكْرهه، والشّعبُ عندي أهمُّ من أيِّ مسؤول مهما كانت مكانتُه]؛ ارتاح المواطنون للقرار، وهتفوا بحياة القيصر، وأَقسموا على التّضحية مهْما كانت التكاليف لتجاوُز هذه المحنة التّاريخية.. والتاريخُ يقرّر أنّ الشعوب الحُرّة تعرف في محنِها وعُسْرتها..
يقول [تولستوي] في كتابه [الحربُ السَّلام]، الجزء: (3): [لم يَنهزم نابليون وجيشُه الكبير بسُيوف الإمبراطورية البرّاقة، ولكنْ بعصا الفلاّح القاسية، ذلك الفلاّح الفقير الذي أهانه الوالي، والعُمْدة، والوزير، والقائد، ولكنْ عندما تعلّقَ الأمرُ بمصير الأمّة، كان في الموعد دون أن يهتمّ بمن يديرون الأمورَ من فوْق، لأنّ الوطن أهمّ منهم وممّا يكسِبون].. أمر [كوتوزوف] بإحراق [موسكو] وكتبَ عُمدتُها [روستوبْشين] إلى زوجته قائلاً: [عندما تصلُكِ هذه الرّسالة، تكونُ (موسكو) قدِ انمحتْ من الخريطة]؛ ولـمّا دخلَها [نابليون] فوجدَها تحترق قال بحسرة وأسىً: [ما هكذا تُخاضُ الحروب]، وبعد أشهُر، كرّ راجعًا إلى [فرنسا] وقد تحوَّل جيشُه إلى لصوص، وتجار، وسُرّاق، فكانوا يحْمِلون ما سرقوه لكنّ الفلاّحين كانوا يحاصرونهم ويستردّون ما نهبوه، فحدثَتْ كارثة نهْر [بيزينا]، فَفرّ [نابليون] بمعية حرسِه الشّخصي تاركًا جيشَه الـمُمزّق تحْت رحمة المواطن الرّوسي..
كان الشعبُ الرّوسي يقاوم اجتياحَ [نابليون]، ويضحّي بالغالي والنّفيس، وكان القيصرُ وسط المعركة، لا يغمض له جَفن، فيما كان الأثرياءُ يعيشون ليالي حمراء، كلّها رقْص، ومُجون، وتبادُل لكؤوس الڤودكا والكافيار، ولما انتهت المعركة استمرّوا في بذْخهم، ورقْصهِم، ولياليهم أو كما يُسمّى بالفرنسية [les nuits tapageuses] وهذا هو حالهُم، وهذا هو أسلوبُهم.. نحن اليوم، نعيش عسْرةً أشبه بعُسرة الرّوس، وإذا كان عدوُّهم هو [نابليون] الذي أتى على الأخضر واليابس، فنحن اليوم نواجه خطَر [كوڤيد 19] القاتِل وموجة الجفاف المدمِّر، وليس في السّاحة غيْر ملكٍ وشعْبٍ، فيما الأثرياءُ الفقراءُ ليس لديهم ما يساهمون به لكسب هذه المعركة المصيرية؛ وتضامُنُ ملكٍ وشعبٍ في هذه المحنة هي فصْلٌ آخر من ثورة الملكِ والشّعب؛ والشّعبُ يعْلم أنّ لا أملَ له إلاّ في هذا الملك الحكيم، ولا أملَ له في حكومة التّجار أو أحزاب العار والشّنار أو في برلمان الكذب والبهتان..
قالت مستشارة من التجمُّع الوطني للتّجار إنّنا كلاب، ونحن نقول لها إنّنا كلابٌ في الوفاء لله والوطن والملكِ، ومَنْ أكْثَرُ في الوفاء من الكلب؟ والكلبُ خيرٌ من ذِئْب صار راعيًا، ومن عتريسٍ صار بستانيًا؛ نحن نهتِف عاش الملك دون طمَع، ودون نفاق أو صَلف، وأنتم ماذا قدَّمتم لهذا الوطن غيْر النّهب والسّلب ومسرحيات تحت قبّة البرلمان بأثمان باهظة، وامتيازات، وثروات، حتى صاح الشّعبُ بِكُمْ: [اِرْحلوا، فلا حاجةَ لنا بِكُمْ وبسياستكم!]؛ ألهبتُمْ جلودَنا بمحروقاتكم، وصارت لنا جيوبٌ مثقوبة بأسعاركم، وأضنانا سماعُ أكاذيبِكم، فلو كانت لكم هِمّة وذمَّة وكرامة لانْسحبتم في صمْت، ولكن هيهات أن تَفعلوا، لكن سوف يأتيكم اليقين ولو بعْد حين، فأين تَذهبون؟ تقول الفلسفةُ الوجوديةُ، وهي فلسفةٌ إنسانية، إنّ قلقَ الإنسان الوجودي يكُون السّببُ فيه هو تردُّد الإنسان أمام اختيارات يزخر بها الوجودُ، فلا يدري الإنسانُ أمام هذا الكَمّ الهائِل من الاختيارات أيُّها أنجَع وأصلَح لحلِّ مشاكلِه.. ونحنُ اليوم، نعْرف أجْودَ الخيارات بسبب سياستكم المغشوشة، كيف ذلك؟ نحن اليوم نعيش حالةَ الاستثناء، وهذه الحالةُ تحتّم علينا دستوريًا، ومنطقيًا، وسياسيًا إعفاء هذه الحكومة التي استبدّت بالسّلطة، وتعيين حكومة أزمة؛ ثمّ حلّ البرلمان، ومجلس المستشارين لأنّه لا دَوْر لهما في حالة الاستثناء؛ ثمّ حلّ مجالس الجهات وهي مجالسُ صورية خالية من القُدرات والكفاءات؛ وقْف الدّعم لأكشاك الأحزاب، وهي مجرّد أكلَة للسُّحْت ليس إلاّ؛ وقف الدّعم لمنظّمات وجمعيات تدافع فقط عن إلغاء الإعدام وإقرار العلاقات الرِّضائية؛ حلّ كافّة الأكاديميات لعدم جدواها والاكتفاء بالنّيابات لتدبير شؤون التّربية والتّعليم؛ إرغام الأثرياء على دفْع الضّرائب دون تماطُل؛ بذلك ستفيض خزينةُ الدّولة وسنكْسِب الرِّهان ملِكًا وشعبًا وإلاّ..