إدريس عدار
في مقال سابق حول “الجامع بين دعاة الحداثة ودعاة الأصالة”، تطرقت إلى نموذجين، دون أن يكون في نيتي الحصر، ويتعلق الأمر بـ”الداعية” أحمد الريسوني و”الداعية” أحمد عصيد. هذا التوصيف مقصود للغاية. فالأول يطلقون عليه فقيها مقاصديا والثاني مفكرا. وحاولت أن أبين أن الرجلين نموذجان لما يمكن أن يطلق عليه “الداعية”، وهي صفة لا يمكن فقط إطلاقها على الدعاة الدينيين. وبعد أن تقاسمت المقال على صفحتي بموقع التواصل الاجتماعي، كانت الردود موزعة بين منتصرين للأول ومنتصرين للثاني وبعض ممن أعطاني الحق فيما قلت أو اختلف في بعض النقط.
صاحب رد يقول إن “هناك فرقا شاسعا بين من يروج ويبرر أفكارا ونظريات عتيقة وبين من يقوم فقط بالدعوة إلى استعمال العقل كمنهج أساسي للتفكير ولا يدعي أبدا أنه ينتج نظريات أو ينصح بتبني أي منظومة أخرى”. وهذا يتفق معي في نعت الداعية بتشديده على أن عصيد يقوم بالدعوة إلى استعمال العقل.
ومن انتصر للريسوني رأى أنني بنيت استنتاجا قابلا للنقاش لكنه مبني على معطيات لا تستقيم لأي فكر سوي.
آخر قال “تنتصر للفقيه بشكل ماكر مع الأسف وكأن أزمتنا أزمة فقه. أما اعتبار أحمد عصيد لا ينتج فكرا فهذا تجنٍّ فاضح أتساءل عن تعريف المفكر من وجهة نظرك مع كل التقدير الممكن.” وفي الرد قلت “أتمنى ألا يكون تعليقك ماكرا مثل انتصاري غير الموجود للفقيه. أصلا قلت إن الريسوني ليس فقيها. مفكر صاحب مشروع له فكرة أصيلة لم يأت بها غيره. لهذا وصفت الريسوني وعصيد بالداعيتين وأضيف السلفيين. الريسوني السلفية الدينية وعصيد السلفية الحداثية لأنهما يجتران أفكارا مطروحة”.
وكتب من أراد الانتصار للثاني “الأستاذ عصيد في محاضراته وكتاباته يطرح العديد من الأفكار وهو ينهل من ثقافة تنويرية عظيمة لمختلف الأدباء والمفكرين السابقين الذين أخرجوا البشرية إلى النور وأفكاره واضحة هي نبذ التطرف واستعمال العقل والنهوض من الغيبوبة، أما رجال الدين فقط يكررون المضامين الدينية ويعتبرونها هي الصالحة دوما وأبدا حتى ولو تجاوزها الواقع والتاريخ ولا يملكون أفكارا واقعية تناسب التطورات الحاصلة في المجتمع، هم فقط يلعبون على المشاعر الدينية للناس ويستغلون الجهل المتفشي فيه لتمرير خطاباتهم العقيمة التي تخدم استمرارهم ومحاولاتهم اليائسة للسيطرة على المجتمع”.
اعتبرت هذه المرافعة غير صحيحة باعتبار أن عصيد “يسرق” أفكار غيره ويروجها على أنها أفكاره ولا يذكر المراجع فهو رجل غير جدير بالحقيقة ولا يؤتمن على المعقول. لما أقول مفكر أتحدث عن صاحب مشروع فكري تتفق معه أو تختلف معه ليس مهما، لما نقول عزيز الحبابي يعني الحديث عن “الشخصانية الإسلامية”، والعروي “القطيعة الكبرى مع التراث”، والجابري “نقد العقل العربي”، وأركون “الإسلاميات التطبيقية”، وطه عبد الرحمن “التقريب التداولي”…. لما نقول عصيد، ماذا نقصد؟ فرد صاحبي “نقد العقل الجامد”. قد لا أكون مطلعا على هذا المشروع الفكري لهذا طالبته بأن يرشدني إلى دراسة يبرز فيها عصيد مشروعه هذا، لكن لم أتوصل بالجواب، وأي واحد يعتبر هذا الأخير مفكرا أطالبه بأن يرشدني إلى دراسة أو كتاب أعثر فيه على معالم المشروع.
بقي طلبي معلقا لكن أحمد عصيد لا يمكن أن يكون ناقدا للعقل الجامد وهو بدوره تجمّد على حداثة القرون السالفة، بينما الحداثة مشروع غير مكتمل كما ذهب إلى ذلك هابرماس، وكل يصنع حداثته.
فيما يتعلق بالريسوني، استغرب أن الكثير من المثقفين انطلت عليهم حيلة الفقيه المقاصدي، فقط لأن الرجل ذات زمن هيأ أطروحة حول “نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي”، لكن عشرات الأسئلة طرحت منذ زمان ولم يجب عنها: هل كان الشاطبي نفسه مقاصديا؟ هل حسم الريسوني إشكالات المقاصد؟ ما هو مسلكه الأصولي قبل أن ينتقل إلى المقاصد؟ لماذا الفتوى المقاصدية انحصرت في زيارة القدس ولم تتعدَّها؟ ما هي منتجية الريسوني في الفقه المقاصدي؟ تحديد المفهوم والتعريف ليس نافلة بل هو الحد الذي يفصل بينه وبين منتقديه. طبعا هو يردد ما سبقه إليه الآخرون.
بهذا المعنى يكون عصيد “داعية” ويكون الريسوني “داعية”.