محمد فارس
وقَف رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم أمام جيش العُسْرة، في عام العُسْرة، وقال عليه الصّلاةُ والسّلام: [من يُجهّز هؤلاء وله الجنّة!]؛ فتقدّم ثريٌ كبيرٌ وهو [عثمان بن عفّان] رضي الله عنه وقال بصوت جُهوري: [أنا لها يا رسول الله]، فجهّز [عثمان] جيشًا بأكمله، وبمعدّاتِه، وخيولِه، وبغالِه لم تَكُن بيْنَها لا جَرباءُ ولا عرجاء؛ وسنةُ العُسْرة هذه، تُشْبِه سِنين العُسْرة التي نعيشها اليوم بسبب الوباء والجفاف، ولم نجِدْ حكومةً واحدةً لها خيالٌ أو حِكْمةٌ تُخفِّف عنّا من وطأةِ ما نزَلَ بنا وقد رأينا سياسةَ حكومة بعْد مائة يوم من تَنْصيبِها، أمْطرتْنا وابلاً من القرارات المُجْحِفة، ومن السّياسات القمعية، ولم تَفِ ولو بوعْدٍ واحد ممّا وعدتْ به خلال الانتخابات المخدومة التي أوصلتْها إلى سُدِّة الحُكْم.. قال [بكْر بنُ عبد الله المزْني]: أَسْلمَ يهوديٌ اسمُه [يوسُف]، فمرَّ بمقرِّ [التّجمُّع الوطني لِلتّجار]، عفْوًا، مرَّ بداِر [مرْوان]، فقال: ويْلٌ للأمّة من أهْلِ هذه الدّار، وكان صديقًا للمدعو [عبد الملك بن مروان]، فضربَ يومًا على مَنْكبِه وقال له: اِتَّقِ الله في أُمة (محمّد) إذا ملكتُمْ؛ فقال [عبد الملك]: دعْني ويْحَك، ما شأْني وشأْنُ ذلك؟ وشاءتِ الأقدارُ أن صارَ [عبْد الملك] حاكمًا، وفي أوّلِ خُطْبة له قال: ألاَ وإنّي لا أُداوي أَدْواءَ هذه الأمّة إلاّ بالسّيف حتى تَسْتقيمَ لي قناتُكم؛ فوالله لا يأْمرني أحدٌ بتقوى الله بعْد مقامِي هذا، إلاّ ضربتُ عُنُقَه، ثمّ نزلَ من على المنبر.. فقارِنْ بين هذا وبيْن ما تراهُ الآن عيْـنَ اليقين، فلا فرقَ يُذْكَر..
لكنْ من هو [عبد الملك] هذا؟ هو عبد الملك بن مرْوان بنُ الحكَم اللّذان كانا سببًا مباشرًا في قتْل [عُثمان] عندما صارا يتحكّمان في دواليب الدّولة ويتخوّضان في ثرواتِها، وينْزَعان منَ المسؤولية صحابةَ النّبي الكريم، ويُنَصِّبان مكانهم فَسَقَة نزلَ فيهم قرآنٌ يَذمُّهم؛ فلقد خلَعوا من ولاية [الكُوفة] [عبد الله بن مسعود] كاتبَ الوحْي، ونصّبوا مكانَه [الوليد بنُ عُقْبة] الذي نزلتْ فيه آيةُ [إنْ جاءَكُم فاسقٌ بِنَبإ]، ولـمّا وصلَ [ابنُ مسعود] إلى المدينة، ودخَل المسجدَ، حمَله [مرْوان] على كتفه، وضربَ به الأرض، فدُقَّتْ عِظامُه، كما منَعا الصّحابَة والـمُجاهدين وكتّابَ الوحي من تعويضاتٍ أوصى بها النّبيُ الكريمُ لهم مِثْل [أُبيْ بنُ كَعب]، و[عبد الله بن مسعود] وآخرين، كما اقْتُطِعَ من أُعْطِيات زوجات النّبي، وهو ما لم يَفعلْهُ أحدٌ من قبْلُ..
كان [مروانُ] وأبوه [الحكم] تاجريْن، يحِبّان المالَ وكنْز الثّروات، فكانا يَمنعان الناس من دخول الأسواق حتى يَشتري لهما سماسِرتهما ما قلّ وزْنُه وغلاَ ثمنُه، بعْد ذلك يُفتَح السُّوق للجميع.. كان لهما ختْمُ [عثمان]، فكانا يختِمان به في غفلةٍ منه كلّ القرارات، فعيّنا به [عبد الله بن أبي سَرْح] كوالٍ على [مِصر]، وكان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم قد أَهْدرَ دمَه لأنّه ادّعى أنّه كان يحرِّفُ القرآنَ عندما كان يتلوه عليه رسولُ الله، كما متّعوه بخُمُس شَمال [إفريقيا]، فاحتجّ أهلُ [مِصْر]، وطالبوا بعزلِه، فحمَّلهم [عثمان] كتابَ العزل، لكن [الحكَمَ] وابنه [مروان] كتبَا كتابًا حمّلاهُ غلامًا من غِلمان [عُثمان] يقولان فيه: [إنْ دخل عليكَ هؤلاء بكتاب [عثمان]، فاضرِبْ رقابهم، وابْقَ في منصبِك، وتصادفَ أن وُجِدَ هذا الكتابُ بحوزة الغلام، فكرّ الجميعُ راجعين إلى المدينة اعتقادًا منهم أنّ [عثمان] هو الذي كتبه، فأقسمَ بالله أنّه لم يَكْتبْه ولم يَختِمْه ولا عِلْمَ له به فحُوصِر [عثمان] (40) يومًا، وقُتِل، وفرّ [الحَكَمُ] وابنُه [مروان] وهما الأصلُ في الفتنة..
عرف بنُو أميّةَ بجمع الأموال واصطناع الأحزاب ممّا أدّى بهم إلى خرق كثير من القواعد التي وضَعَها الخلفاءُ الرّاشدون لاقتضاء الأموال وإنفاقها.. فقد كانتِ الأموالُ التي ترِدُ على بيت مال المسلمين تُعَدُّ مِلكًا للمسلمين، وما المسؤولون والوزراء إلاّ حافظون لها لتُنْفَقَ في مصالح الأمّة وفي تدبير شؤُونها، لكنْ في عهد بني أُميّة، صارتْ هذه الأموالُ مِلكًا لحكّام بني أُميّة، لا يسائلهم أحدٌ، أو يحاسبهم محاسِب، وقد رأيت مثلاً أنّ [أبا بَكر الصّديق] توفيَ وليس في بيت مالِه غيْر دينار، وأنّ [عمَر] كان إذا احتاج إلى المال فوْقَ راتبِه، استقرضَه من بيت المال حتى يؤدّيه من عطائِه، وكان [عمرُ] يَرى أنّه لا ينبغي أن يَبقى في بيت المال شيءٌ، ونهى عن اختزانِ المال وجَمْعِه واحتكارِه.. لكن بنو أميّةَ اصطنَعوا الرّجال، وجمْع الأحزاب، واسترضاء الانتهازيين والباحثين عن الثّراء، فغضّوا عن كثير من الأحكام، وتوفّقوا إلى وزراءَ أشدّاء، وإلى عمّال أوفياء لا يُبالون بالدّين ولا أحكامِه في سبيل أغراضهم مثْل [زياد بن أَبيه]، و[عُبيْد الله بن زياد]، و[الحجّاج] أستاذ الإرهاب، و[خالد القسْري]، فكانوا يؤْمرون بجمع الأموال وحَشْدِها، والعمّالُ لا يُبالون كيف يَجمعونَها؛ فقد قيل مثلا لِـ[زياد]: [اِصْطَفِ لي الصَّفراءَ والبيضاءَ].. لذا ترى أنّ جامعي الثّروات، وعبّاد المال يشكِّلون خطرًا على الأمّة، فهُم لا يَرون حرجًا في ابتزاز الأموالِ أكان ذلك برفع الأسعار، أو الاقتطاع من الأجور، أو المسّ بالأرزاق تحت أيِّ ذريعة كانت، وأيُّ ذريعة يختلقون لها قانونًا يُلزِم الشّعبَ بها.. وهكذا، بدأتْ دولةُ الأمويين في التّراجُع، فدبَّ فيها الوهَنُ، وانهارتْ، ولم تَصْمُدْ أكثر من (90) سنة فقط، فكانت القاضية..