تعيش الساحة البرلمانية على وقع جدل سياسي وقانوني متصاعد، بعد أن فجرت فرق المعارضة في مجلس النواب قضية دعم استيراد المواشي، والذي كلف خزينة الدولة ملايير الدراهم دون أن يُترجم إلى أي تحسن ملموس في أسعار اللحوم والأضاحي، و في قلب هذا الجدل، جاءت مبادرة المعارضة بتشكيل لجنة تقصي الحقائق لكشف ملابسات هذا الدعم المثير للريبة، والذي استفاد منه مستوردون كبار، عبر إعفاءات ضريبية وجمركية ودعم مباشر، في خطوة وصفتها المعارضة بأنها “حتمية دستورية” من أجل ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإنارة الرأي العام بالحقيقة.
يُعد تشكيل لجنة لتقصي الحقائق خطوة غير مسبوقة في ظل دستور 2011، وتتطلب جمع توقيعات ثلث أعضاء مجلس النواب، أي ما لا يقل عن 132 نائبا. حتى الآن، لا تتوفر المعارضة إلا على 95 توقيعاً، ما يجعلها بحاجة إلى دعم من داخل صفوف الأغلبية.
و تتمتع هذه اللجنة بصلاحيات قوية، من بينها إلزامية مثول كل من يُستدعى أمامها، وأداء اليمين القانونية، مع إمكانية إحالة تقاريرها على القضاء، ما يجعلها أداة رقابية حقيقية وليست مجرد إجراء شكلي.
رد فعل الأغلبية جاء سريعًا، إذ أعلنت مكوناتها، إلى جانب الفريق الدستوري الديمقراطي الاجتماعي، تقديم طلب للقيام بمهمة استطلاعية، بدلاً من لجنة تقصي الحقائق. وبهذه الخطوة، يُخشى أن تتحول القضية إلى إجراء بروتوكولي لا يسفر عن أية محاسبة فعلية، و المهمة الاستطلاعية، وفق النظام الداخلي لمجلس النواب، لا تملك صلاحيات التحقيق أو الإحالة القضائية، وتكتفي بإعداد تقرير غير ملزم.
و في أول موقف رسمي، أصدر حزب الأصالة والمعاصرة، أحد أركان الأغلبية، بلاغًا حذّر فيه من “التوظيف السياسي” للقضية، داعيًا إلى احترام استقلالية المؤسسات، وهو ما اعتبرته المعارضة محاولة مكشوفة لنسف المبادرة بحجة لا تصمد أمام حجم الاختلالات المعلنة.
يُذكر أن عدداً من قيادات الأغلبية، من بينهم الأمين العام لحزب الاستقلال نزار بركة، سبق وأن انتقدوا صراحة طريقة تدبير هذا الدعم، واصفين إياه بأنه فاشل وغير عادل، بل وملغوم بتضارب المصالح وغياب الشفافية، و أحزاب المعارضة، من خلال ندوة ، جددت دعوتها لنواب حزب الاستقلال للانخراط في تشكيل اللجنة، في خطوة وُصفت بأنها “اختبار حقيقي” لمدى جدية الخطاب السياسي داخل الأغلبية، و تساءلت : “إذا كان نزار بركة قد اعترف بوجود اختلالات ووجه اتهامات للوسطاء والمضاربين، فما الذي يمنع نواب حزبه من دعم لجنة تقصي الحقائق؟”.
التحدي الأكبر أمام المعارضة يتمثل في إقناع 37 نائباً إضافياً، معظمهم من الأغلبية، لتجاوز العتبة القانونية المطلوبة. مهمة ليست سهلة بالنظر إلى التماسك العددي للأغلبية، لكنها ليست مستحيلة، خاصة في ظل الضغط الشعبي المتزايد والمطالب بمحاسبة المتورطين في هدر المال العام.
وفي حال تعذر تشكيل اللجنة، فإن ذلك سيشكل انتكاسة خطيرة لوظيفة البرلمان الرقابية، وسيزيد من الهوة بين المواطن والمؤسسات، خصوصًا أمام القضايا التي تمس معيشه اليومي وثقته في نجاعة السياسات العمومية.
تشير بعض أصوات المعارضة إلى أن الدعم المُخصص لاستيراد المواشي استُخدم كأداة لشراء الولاءات الانتخابية عبر ضخ الأموال في جيوب فئة من المستوردين، قريبة من دوائر القرار السياسي والحزبي، استعداداً لمحطات انتخابية قادمة، سواء صحت هذه الاتهامات أم لا، فإنها تُسلّط الضوء على الطابع السياسي العميق الذي اتخذته هذه القضية، وتجعل من مطلب التحقيق الشفاف مسألة وطنية تتجاوز الحسابات الحزبية الضيقة.
في وقت يتطلع فيه المواطن المغربي إلى محاربة الفساد وتكريس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، تجد الحكومة نفسها في مأزق حقيقي بين كشف الحقيقة أو التغطية على الاختلالات. ومهما كانت مآلات هذه القضية، فقد كشفت عن يقظة سياسية جديدة داخل المعارضة، وعن وعي شعبي متنامٍ يرفض الاستهتار بثروات البلاد، يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستصمد إرادة التحقيق أمام مناورات الأغلبية، أم أن اللعبة السياسية ستُجهض مرة أخرى حلماً بمساءلة فعلية تنحاز لمصلحة المواطن؟
وقال محمد نببل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم و الاشتراكية، ” إنه مأزق سياسي وأخلاقي وقانوني كبير تُوجَد فيه الحكومة، أمام الرأي العام الوطني، بسبب واقعة ملايير الدراهم التي أهْـــــدَرَتْـــــــهَا، ولا تزال، من المال العام، بدون أيِّ أثر إيجابي على المواطنين، من خلال الدعم المباشر والإعفاءات الضريبية والجُمركية التي قَــــــدَّمَـــــتْــــــهَا، ولا تزال، إلى مستوردي الماشية، على طبقٍ من ذهب.
بالنظر إلى خطورة القضية، وإلى التصريحات والوثائق المتضاربة لأطرافٍ حكومية مختلفة بهذا الشأن، ومن أجل كشف ملابسات كل ذلك للمغاربة، بادرت، كما هو معلوم، مكوناتُ المعارضة بمجلس النواب إلى إطلاق مبادرة تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، على أمل أن تتعامل معها مكوناتُ الأغلبية بروحٍ إيجابية وبنَّــــاءة، طالما أن الهدف هو الوصولُ إلى الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، في إطارٍ دستوريٍّ ومؤسساتيٍّ شفاف وموضوعي.
و اضاف بنعبد الله ” لكن، لم تجد الحكومة من مَـــخرجٍ أمام هذا الوضع الذي أربَـــــكَـــــها سوى دفعُ أغلبيتها نحو محاولة تبخيس، بل إفشال ونسفِ، مبادرة تشكيل لجنة لتقصي الحقائق المؤطَّرة بالدستور وبقانون تنظيمي، وذلك من خلال تقديم طلبِ تشكيل مهمة استطلاعية حول نفس الموضوع.
وهنا يتعين الوقوفُ عند الفوارق الشاسعة جداًّ، على كل المستويات، بما فيها مستوى الأثر القانوني، ما بين لجنة تقصي الحقائق ذات الحمولة الدستورية القوية، والتي يُعتبرُ مُثولُ أيِّ شخصٍ أمامها إلزاميًّا، والاستماعُ إليه يكون تحت أداء اليمين، مع إمكانية إحالة تقريرها على القضاء، من جهة، وما بين المهمة الاستطلاعية التي لا يتجاوز دورُها الطابعَ الإخباري وإصدار توصياتٍ غير ملزمة لأحد، من جهة ثانية.
لذلك، فلا المعارضةُ الوطنية، ولا الرأيُ العام الوطني، يمكنُ أن تنطلي عليهما هذه الحيلةُ المفضوحة، أو الخديعة الماكِرة، التي لجات إليها الحكومةُ للالتفاف والتملُّصِ من واجبِ ومَطلَبِ مُثول كلِّ معني بالأمر أمام لجنةٍ لتقصي الحقائق، تنويراً للرأي العام، وتجسيداً لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وحفظاً للمال العام، وترسيخاً لقيمة البرلمان واختصاصاته.”
و كتب بنعبد الله ، وبالدارجة المغربية “للي ما ف كرشو عجينة ما عندو علاش يخاف”. بمعنى أن الحكومة إذا كانت فعلاً متأكدةً من أن دعمها لمستوردي المواشي لا يشوبُـــــهُ أيُّ اختلال، فلماذا تتهربُ من لجنة تقصي الحقائق!؟ إنَّ اللجنة مثل اسمها تماماً، لا تهدف سوى إلى الحقيقة. فلماذا تخاف الحكومةُ من الحقيقة!؟ إنه فعلاً أمرٌ يزيدُ من الرِّيــــــبَـــــــةِ والشك…، ومن الشُّبُـــــــهات، في هذه القضية التي تشغل بال الرأي العام……وتُزعِجُ الحكومة، بشكلٍ جليّ، وتضعها أمام مِحَكٍ حقيقي وتمرينٍ فعلي، في مواجهة… ذكاء المغاربة وتطلعهم نحو الشفافية والعدالة والديموقراطيىة”.