محمد فارس
… وبما أنّي بصدد الحديث حوْل [سبتة ومليلية] المحتلّتين، طفتْ على سطح ذاكرتي قصّةٌ حدثتْ لي مع إسباني في إحدى المدن المغربية المحادية لمدينة [سبتة] المحتلّة، كان هذا الإسباني الذي كان يجالسني في إحدى المقاهي [عميدًا] في [الحرس الوطني الإسباني]، وذات مرّة حدث ما حدث، وكاد الحوارُ أن ينتهي بمشادّاة بالأيدي، حتى فصل بيْننا بعض رجال الشّرطة المغربية، ومن ثمّة لم أَرَهُ ثانيةً، ولكن ماذا حدث بالضّبط حتى أدّى إلى هذه المشادّاة بالأيدي؟ دخل [مُون كابِتان] المقهى كعادته، وسلّم عليَّ وطلب قهوةً، وتبادَلنا عبارات المجاملة، واستمرّ حديثُنا دائرًا في أمور عدّة إلى أن سأَلني: منذ متى لم تدخُلْ إلى (سبتة)؟ فأجبتُه: أنا لم أدخل إلى (سبتة) قطّ، ولن أدخلها أبد الدّهر.. قال: ولماذا؟ قلت: إنّه لا يشرّفُني أن أقدِّمَ جوازَ سفري إلى شرطي إسباني، وأنا على أرضي وفي مدينتي..
اِمْتَقَعَ وجهُه لِـمَا سمِعَ، والحقيقةُ أنّي لم أكُنْ أستفزّه، بل كنتُ أعبّر عن حقيقة نفسيتي، لا غيْر، وأقولُ ما أعتقده ليس إلاّ.. تابع قائلاً: إنّ العلاقات وطيدة بيْن (المغرب) و(إسبانيا) رغم (سبتة) و(مليلية).. قلت: (مُون كابِتان) أنا لستُ كائنًا سياسيًا، ولكنّي كائنٌ تاريخي، وإنسانٌ وجودي، فَلِلسّياسي مبرّراتُه، وللكائن التّاريخي مبادئُه؛ فالسّياسة متقلّبة مِثْل الأحوال الجوّية، وأمّا التاريخُ فله منطقُه، ومسارُه، وحقائقُه، فهو متقدِّم على السّياسة، والكائنُ الوجودي يَنشد دائمًا الحرّية التي حُكِم بها عليه، ولا قيمةَ له بدونها.. فتبسَّم ضاحكًا من قولي وقال: [Que Filosofia] أَيْ [يا لها من فلسفة!].. قلت: الفلسفةُ هي البحثُ عن الحقيقة، والتّاريخُ جزءٌ منها، فلو سألناهما لأجابا بأنّ (سبتة ومليلية) مدينتان محتلّتان من طرف [إسبانيا] التي تتشبّثُ بهما باطلاً، وتتركُ [جبل طارق] الذي هو أرض إسبانية بأيدي الإنجليز، أليس كذلك؟ ثم تابعتُ قائلا: (إسبانيا) لن تتجرّأ على [بريطانيا] خوفًا من أن يحدثَ لها ما حدثَ لأُسطول [فيلبّي الثّاني] حيث حطّمَتْه [بريطانيا] عن آخره، ولكنّ [إسبانيا] حركتْ أسطولها من أجل صخرة لا قيمةَ لها اسمُها [جزيرة ليْلى] في المياه المغربية، فعَنْ أية صداقةٍ تَتحدّث، وبأيِّ تعاونٍ تُشيد والحالةُ هذه؛ فأية دولة استعمارية تحتلّ أرضكَ، لا يجب أن تمدّ لها يدَكَ بالصّداقة.. استشاط غضبًا، ونفرتْ منه العبارات، فأشعلَ سجارةَ (فورتونا) ورشفَ رشفةً عميقةً، ثمّ ماذا؟
قال: ألا ترى أنّ عددًا من المسحوقين في [المغرب] يعتاشون من [سبتة] ويتدافعون كلّ صباح للدّخول إلى هذه المدينة، فهي حلّتْ مشاكلَ لبلدكم، لذا تراه لا يطالب بها [إسبانيا]؟ قلت: [سبتة] أحدثتْ ثقبًا في خزينة [المغرب] ودمّرتْ اقتصادَه، وأنتجتْ رأسَ مالٍ لقيط، ومنها خرجتْ أخلاقٌ مشينة، وصارت [سبتة] وكرًا للقتلة، والمجرمين، والفارّين من العدالة، كما صارت قاعدةً للتّهريب، وللهجرة السّرية، حتى لإنّ شرطتَها صارت تعتاط الرّشوةَ، وتتآمر مع تجّار المخدّرات، لكنّ [سبتة] تعتبر موردًا لتنمية إقليم [أندلوسيا]؛ فلوْلا [سبتة] لعاشَ سكان [الأندلس] فقرًا مدقعًا، فبأموال التّهريب في [سبتة]، تقوم تنميةُ هذا الإقليم على حساب المغاربة، واقتصادِهم، فكمْ شركة مغربية أقفلتْ أبوابَها، وسَرّحتْ عمّالها بسبب التّهريب، فـ(سبتة) المحتلّة جنَتْ حتى على التلاميذ، حتى لإنّ الطّفلَ يَحْلُم بالذهاب لممارسة التّهريب بدَل متابعة دراسته، وأنا كرجل تعليم شاهدٌ على ذلك..
قال: كل الإسبان يُؤْمنون بأنّ [سبتة] إسبانية، ويَرفضون القولَ بعكس ذلك.. قلت: في يوم من الأيام، وأنتَ تعْرف ذلك، كانتِ الإنسانية جمعاء، ومعها الإسبان، لا يؤمنون بكُرَوية الأرض رغْم أنّ ذلك كان غيْر حقيقي، ولكنّ الجميع آمنوا بهذه الحقيقة العلمية، والكلّ اليوم يؤمنُ بأنّ [سبتة ومليلية] مدينتان مغربيتان.. لقد كانت [سبتة] مركزًا فكريًا وعلميًا أنتج علماء ومفكّرين ذكرهُمُ التاريخ؛ فماذا صارتْ بعدما احتلّتْها [إسبانيا] الاستعمارية؟ صارت [سبتة] تُعْرف بحيّ [بريسِيبّي] المليء باللّصوص، والقتلة، حتى لإنّ الشرطة نفْسها لا تدخل هذا الحيّ الموبوء نظرًا لخطورته.. بعدما حوصر صديقي، بدأ يَرمي على مائدة الحوار السّاخن ما تبقّى لديه من أوراق، إذ قال: وجودُنا في [سبتة] في مصلحتكم.. قلت: هذه شنشنات معروفة، فكلّ استعمار يَدَّعي دائمًا بأنّ استعماره في مصلحة المستعمَر (بفتح الميم)، وأنا أعترف لكَ صادقًا، بأنّه لو بقيتْ [سبتة] مستعمرة، فسنعاني الكثير، فهي ثَغْرة يجب أن تُحْسَم مرّةً واحدة وإلى الأبد، وستُسيء كلّ مرّة إلى حُسْن الجوار؛ فنحن أصحاب حقّ، ولكنّكم قوْم ما زالوا يتشبّثون بمفاهيم القرون الوسطى، ويأخذهم الحنيـنُ إلى عصر استعمار بغيض ولَّى، فلو اقتطعْتم [سبتة] بالمقصّ، وسَحَلْتموها إلى الشّواطئ الإسبانية، فسيُعْتَبر ذلك سَطْوًا على ممتلكات الغيْر حسب القانون الدّولي، وسَتُتَّهمون باللُّصوصية.. انتصبَ واقفًا وهو مُتَجَهِّم، ووقفتُ أنا كذلك للدّفاع عن نفسي، ففَصَل بَيْنَنا أفرادُ الشّرطة المغربية؛ فتوعَّدني، فقلت: اِعْتَقِلْني لو وجدْتَني في [إسبانيا]، ومن ثمَّة لمْ أَرَهُ قطّ يعُود إلى ذلك المقهى بعد ما صدمتْه حقائقُ لم تَخطُرْ على بالِه يومًا؛ فأنا لا ألومه، لأنّ الحقيقة تَصْدم، ولكنّ الحقيقةَ أهمُّ من صداقة أيِّ مستعمِرٍ غاصِب؛ هكذا قال التّاريخ..