محمد فارس
قد يتساءل القُراء الأفاضلُ عن مفهوم [الـمُسَلَّمة]؛ فما معنى (المسَلّمة) إذن؟ [المسلّماتُ] هي قضايا تسلم من الخصم، ويبْنى عليها الكلامُ لدفعِه سواء كانت مسلّمة فيما بيْنهما أو بيْن أهلِ العِلم: هكذا يُعَرفُها [الجُرجَاني] في (تعريفاته).. و[المسلّمات] عند [ابن سينا] هي قسْمان: معتقدات، ومأخوذات؛ فأمّا المعتقدات فهي ثلاثة أصناف: (1 الواجب قَبولُها؛ (2 المشْهورات؛ (3 الوهْمِيات؛ وأمّا المأخوذات فهي صنْفان: مقبولات، وتقريريات.. فأما التّقريريات، فإنّها الـمُقدّمات المأخوذة بحسب تسليم المخاطب، أو التي يلزم قَبولُها، والإقرارُ بها في مبادئ العلوم.. والمسَلّمة تَشْمل عدّة أصناف من القضايا، فهي تَشْمل الأوليَات، والبديهيات.. ففي الفلسفة الوجودية، تجد [سارتر] يَنطلق من [مسَلّمة] أنّ الوجودَ سابِق على الماهية، وصِدْقُ هذه الماهية يَرتكز على النتائج المترتّبة عنها..
ونحن المغاربةَ إذ نقول مثلاً إنّ (الصّحراء مغربية)، فقَبولُها يترتّب عن نتائِجها، إذ بواسطتها، استَكْملْنا وحْدتَنا التّرابية، وحَرّرْنا صحراءَنا من نيْر الاستعمار؛ وإذ يقال إنّ الوجودَ سابِق على الماهية، فبوجود صحرائنا واسترجاعها حقَّقْنا (ماهيتَنا)، ذلك أنّ الماهية تتحقّق بالنّضال، والكفاحِ من أجل الحرّية والاستقلال والانعتاق من أغلال العُبودية التي يحكُم بها عادةً الاستعمارُ المغتصب للأرض والمستعبِد للبشر.. فقبل استرجاع صحرائنا، وتنميتِها، وتحرير إنسانها، كانت ماهيتُنا ناقصة، وغيْر مكتملة، ومن يُنكر علينا استرجاعَ صحرائنا أو يخُون وطنَه بالسّير وراء الانفصاليين والخونة، ويروِّج لأكاذيبهم، فهو يُنْكِر علينا وجودَنا كشعب، ويحاول عرقلةَ اكتمال ماهيتِنا؛ لذلك، كانت صحراؤُنا دليلاً على وجودنا المليء غَيْر الفارغ، ودليلاً على تحقيق ماهيتِنا، لذلك، يؤمنُ المغاربةُ بأنّ مغربية صحرائنا هي مسَلّمة يَلْزَم قَبولها باعتبارها بديهية لا نناقِش فيها خصومَ وحدتِنا التّرابية، بل نجيبُهم بالتّنمية الشّاملة والبناء تمشيًا مع هذه المسَلّمة لتأكيد وجودنا وللتّعبير عن ماهيتِنا رَغْم أنْفِ خصوم وحدتِنا الترابية؛ وهذه الماهية لا تُحقَّق دفعةً واحدةً، بل تَتحقَّق على الدّوام، وباستمرار عن طريق العمل، والاجتهاد، والإبداع، ولن تكتَمِل ماهيتُنا إلاّ بعدما يرث الله الأرضَ وما عليها..
وكما نسلِّم كمغاربة بمسَلّمة (الصّحراء مغربية)، فإنّنا نسلّم كذلك بعُروبة (فلسطين) الأبية.. فالمغرب، كما يؤْمن بأنّ الصحراءَ مغربية، يُؤْمِن بأنّ فلسطين عربية، فليس عبثًا أن تقلّدَ جلالةُ الملك رئاسةَ لجْنة القدس، وقد بعَثَ جلالتُه في اليوم العالمي للتّضامن مع القضية الفلسطينية، رسالةً لرئيس اللّجنة الأممية المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه، قال فيها جلالتُه إنّ القضيةَ الفلسطينية هي مفتاحُ الحلّ الدائم والشامل بمنطقة الشّرق الأوسط، داعيًا إلى تجاوُز حالة الانسداد في العملية السِّلمية، وتكثيف الجهود الدّولية لإعادة إحياء المفاوضات المباشرة؛ وأكّد جلالتُه أنّ الحلّ الأمثل يجب أن يكون وَفْقَ مبدإ الدولتيْن الذي وافق عليه المجتمعُ الدّولي، وأشار جلالتهُ إلى أنّ حقوقَ الشّعب الفلسطيني غيْر قابلة لِلتّصرّف؛ ومعروف أنّ [المغرب] كان من الرّافضين لـمَا سُمِّي [صفقة القرن]..
والمغاربة يحبّون [القدس]، وقد اهتمّ جلالتُه بصندوق بيْت مال القدس، وأنجز عدّةَ منجزات، ممّا يبيِّن تشبّثَ المغاربة بفلسطين منذ القدم، ولا فرقَ لديهم بيْن صحرائهم المسترجعة وقضيتهم الفلسطينية، ويريدون لفلسطين أن تتحرّر كما تحرَّرتْ صحراؤُهم من المستعمِر الغاصِب؛ ولا أعتقد أن أحدًا بَذَل في سبيل (فلسطين) ما بذَله [المغربُ] ملِكًا وشعبًا، ولا أحد يشكُّ في أنّ المؤتمرات العربية كانت ناجحةً كما نجحتِ المؤتمرات التي عُقِدتْ في [المغرب]، واستفادت منها القضيةُ الفلسطينية بشكل لا يُنكره إلا كذّابٌ وجاحد.. ولقد انتبه الملاحظون إلى أنّ [المغرب]، رغْم مشاكل افتعلها الانفصاليون في مَعْبَر [الکرکرات] في صحرائنا، فإنّ جلالةَ الملك لم يَغْفَل قضيةَ (فلسطين) في اليوم العالمي للتّضامن مع الشعب الفلسطيني، ولم تَسْمعْ أيّةَ جهة رسمية ساندتِ القضيةَ الفلسطينية كما ساندها [المغرب] رغْم انشغالِه بعراقيل يمارسها الانفصاليون الخونة في صحرائنا المسترجعة، وإنّي لأتساءل: لماذا لا تُدْرج [منظّمة الأمم المتحدة] عِصابةَ (البوليساريو) في قائمة العصابات الإرهابية، وإدراج الدّولة التي تَحتضنها كدولة راعية للإرهاب؟ لماذا لا تستعمِل [منظّمة الأمم المتّحدة] و[مجلس الأمن الدولي] الذي يضمُّ الخمسة الدّائمين بالضّغط على [إسرائيل] لتقْبل بحلِّ الدّولتين، وبالقدس الشّرقية كعاصمة لدولة [فلسطين]؟ فهذا العجزُ أمام [إسرائيل] يُفقِد المنظّمةَ مصداقيتَها وتَفقد اجتماعاتُ (مجلس الأمن الدّولي) فاعليَتَها، فتصبح المنظّمةُ ومجلسُ أمنِها، وكأنّهما ضريحان من أضرحة الأزمنة الغابرة.. لقد قسّمتِ المنظمةُ فلسطين سنة (1948)، ولكن [إسرائيل] تمادتْ في بناء المستوطنات، فلم يَبْقَ من فلسطين غيْر رقعة كعلبة سَردين، وحبَّة بحجم الأسْبرين، وهما الضِّفة وغزّة على حدِّ تعبير [نزار قبّاني] في إحدى قصائده..