محمد فارس
لقد لاحظتُ في المقالات السّابقة أنّي تطرّقتُ لعدّة أنماط من [الإيديولوجيات]، وأغفلتُ إيديولوجيتيْن بارزتيْن لهما تأثيرٌ كبير في تاريخ الاضطراب الفكري الذي نعيشه الآن؛ والواقع، أنّ هذا الاضطراب الفكري، هو المسؤول عن توقُّف الكثيرين عند صراع الإيديولوجيات المختلفة، دون الاهتمام بالعمل على مناقشة أفكارها، أو تَعقُّل مذاهبها أو مُواجهتها بعْضها ببعض؛ والظّاهر أنّ الكثيرين، لم يَعُودوا يَشغلون أنفسهم بمناقشة آراء خصومهم، بل أصبحوا يَقنعون بالطّعن فيها، والانتقاص من قيمتها بدعوى أنّها مجرّد [إيديولوجيا]، دون مناقشتها وبيان المقاصد الخفية التي تنطوي عليها، وطابَع الخادِع الكامن وراءَها، أو الهدف من نشْأتها، والمفاسد، أو المخاطر التي تفرَّعت عنها، بل هناك من صار يأخذ بها ويَعْتبرها حقيقةً تاريخية، بل هناك مَن يؤْمن بها، وهناك من ينادي باعتمادها مثل [العَلمانية] التي صار لها أنصار، ومِثْلها [الصّهيونية] التي صار لها أتباع، حتى وإنْ كانتَا وراء مآسٍ إنسانية، وأخلاقية، واستعمارية، بدل فضْحهِما، وتَعريتِهما، وإزاحة النّقاب عن خباياهما وطابعهما الـمُضلّل للإنسانية، وللعالم الغافل أجمع.. فما هي إذن [العَلْمانية]، وما هي [الصُّهيونية]؟ كيف نَشأتا، وأين يكمُن طابعُهما الخادع، ومَقصدهما الخفي، وجانبهُما الكاذب والـمُضلِّل؟ فما هي [العَلْمانية]؟ وما هي [الصّهيونية]؟
[العَلْمانية]: هي التّرجمة العربية لكلمة [Sécularité] في اللّغات الأوروبية، وهي ترجمة مُضلّلة، لأنّها توحي للجَهلة بأنّ لها صلة بالعلم، بينما هي في لُغاتها الأصلية، لا صلةَ لها بالعِلم إطلاقا، بل المقصود بها في تلك اللّغات هو إقامة الحياة بعيدًا عن الدّين، أو الفصْل الكامل بين الدّين والحياة.. تقول [دائرةُ المعارف البريطانية] في تعريف كلمة: [Secularism]: [هي حركةٌ اجتماعية تهدف إلى صَرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدّنيا وحْدها، ذلك أنّه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتّأمل في الله واليوم الآخر، ومن أجل مُقاومة هذه الرغبة، طفقَتْ الـ(Secularism) تَعْرض نفسها من خلال تنمية النّزعة الإنسانية، حيث بدأ الناسُ في عصر النهضة، يُظهرون تعلّقهم الشديد بالإنجازات الثّقافية البشرية، وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة، وظلّ الاتّجاه إلى الـ(Secularism) يتطوّر باستمرار، باعتباره حركة مُضادّة للدّين، ومضادّة للمسيحية]..
إذن، نَبْذُ الدّين، وإقصاؤُه عن الحياة العملية هو لبُّ (العَلمانية).. إنّ (اللاّدينية) هي أَقْرب ترجمة تؤدّي المقصود من الكلمة عند أصحابها.. ظهرت (العلمانية) في (أوروبا) منذ القرن السابع عشر، وانتقلت إلى الشّرق في بداية القرن التاسع عشر، وانتقلت بشكل أساس إلى كلّ من [مصر، وتركيا، وإيران، ولبنان، وسوريا]؛ ثم [تونس] ولحقتها [العراق] في نهاية القرن (19)، أما بقية الدول العربية، فقد انتقلت إليها في القرن العشرين، وقد اختيرت كلمة [عَلمانية]، لأنّها أقلّ إثارة من كلمة (لادِينية).. ومدلول [العَلمانية] المتّفق عليه، يعني عَزْل الدّين عن الدولة، وعن حياة المجتمع، وإبقاءَه حبيسًا في ضمير الفرد، فإنْ سُمِحَ له بالتّعبير عن نفسه، ففي الشّعائر التّعبدية، والمراسم الـمُتعلّقة بالزواج، والوفاة، ونحْوهما.. تتّفق [العلمانية] مع [النّصرانية] في فصْل الدّين عن الدولة، حيث لِقَيْصر سُلطة الدولة، ولله سُلطة الكَنيسة؛ أما الإسلام، فلا يَعرف هذه الثّنائية؛ والمسلم كلّه لله، وحياتُه كلّها لله، يراعي وَجْه الله عزّ وجلّ في كل نشاطاته من سياسة، ومن مُراعاة للعدل، ومن حفاظ على ثروات الأُمة، ومن حقوق المواطنين، بعيدًا عن الكذب والخداع وسائر المفاسد الأخلاقية؛ فالإسلام سلوك، ورأسُ الحِكْمة فيه: مخافة الله عزّ وجلّ..
ما هي أفكار ومعتقدات العَلمانية؟ بعض العَلمانيين يُنكرون وجود الله أصلا، وخاصّة منهم المتأثّرين بالعَلمانية الفرنسية، وهي أشرسُ العَلمانيات في العالم على الإطلاق.. من معتقداتها، فصْلُ الدّين عن الحياة الاجتماعية، وإقامة الحياة على أساس مادّي؛ وتطبيقُ مبدإ النّفعية على كل شيء؛ واعتمادُ مبدإ الماكياڤيلّلية في الحكم، والسياسة، والأخلاق؛ ونشْر الإباحية، والشّذوذ، والفوضى الأخلاقية؛ وتهديم كيان الأُسرة باعتبارها النّواة الأولى؛ والطّعنُ في حقيقة الإسلام، والقرآن، والنّبوة؛ والزّعم بأن الإسلام استنفد أغراضه، وأنه لا يتلاءمُ مع الحضارة؛ والدّعوة إلى تحرير المرأة، وتربية الأجيال تربية لا دينيةً، بعيدًا عن الأخلاق.. فإذا كان مثلا عُذْر مَا لوجود هذه العَلمانية في [فرنسا]، فليس هناك أيّ عُذْر لوجودها في بلاد المسلمين.. [فرنسا] تحارب (الإسلام) وتودُّ طَمْسَه في نفوس المسلمين، لأنّ [فرنسا] تعْلم أنّها طُرِدَتْ من بلدان عربية بواسطة الدّين الإسلامي، وأنّ الذين حاربُوها كانوا يَفْعلون ذلك انطلاقًا من إيمانهم بالدين، والعقيدةِ الإسلامية؛ لهذه الأسباب، تجد [فرنسا] تحارب الإسلام، وتَفْرض لغتَها الفرنسية، بدل اللّغة العربية، وتَنْظر للمساجد نظرةَ ريبة، وتَربِط الإسلامَ في الأذهان بالإرهاب، وتسمح بازدراء الإسلام، وبالسُّخرية من نبيّه [محمد] عليه السلام، وتَعتبر ازدراءَ الإسلام حرّيةَ تعبير، وهو أمرٌ مخالفٌ لمبادئ [العلمانية] أصلاً، إذْ لا يجوز للعَلمانية المسّ بأيّ دين كائنًا ما كان؛ ولكنّ [فرنسا]، تَزدري علمانيتُها الدّينَ الإسلامي، وتسْخَر من نبيّه، لكنّها تحظُر وتَمنع المسَّ بالإيديولوجيا [الصّهيونية] أو السّخرية بأبرز شخصياتها، أو الرّبط بيْن [إسرائيل] والعنصرية؛ تلكُم هي [العَلمانية] الفرنسية لمن ما زال يَجهل حقيقتَها اليوم وما أكثرهم..