في افتتاحيتين تحدثنا عن انحدار مرجعيات المغاربة في السياسة والحركة العلمائية الدينية، واليوم نقصد مجالا أخر كان للمغاربة فيه باع طويل، ويتعلق بانحدار حركة الفكر والبحث والمعرفة وتسافل كبير لمفهوم المثقف، حيث كان المغرب رائدا في خارطة الفكر العربي، ولا يمكن أن نحصر الأسماء ولكن على سبيل الذكر نتحدث عن سيدي عبد الله كنون وعلال الفاسي وعزيز بلال ومحمد عزيز الحبابي ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي وطه عبد الرحمن وسالم يفوت وبنسالم حميش وعبد السلام بنعبد العالي وعبد الفتاح كليطو، والقائمة طويلة من كتاب ونقاد وشعراء وأدباء، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر أطال الله أعمارهم.
لكن هذا المنحنى الذي كان متصاعدا هو اليوم في انحدار خطير. حيث نعيش أزمة حقيقية في المفاهيم، حتى أصبح لدينا مفكرون بدون فكرة واحدة أنتجوها، وروائيون كتبوا شيئا شبيها بالحكاية دون تصور ولا رؤية ولا بناء ولا معمار وشعراء بلا قصيدة وحتى فلاسفة دون فلسفة، بينما كان الإنتاج في السابق مبني على أسس علمية وعلى قواعد الحجاج وليس “السنطيحةط التي نعيشها اليوم.
كنت عندما تذكر المغرب يذكر معه أساطنة الفكر والفسلفة، وكثير من المشارقة لما تذكر الحبابي يقولون أستاذنا، وكذلك الجابري بل في الغرب يعرفون العروي. بغض النظر عن الخلافات الموجودة بين كل هذه الأسماء ولكن كان المثقفون يطرحون أسئلة حقيقية.
اليوم نحن أمام ظاهرة المثقف المزيف، ومعناه المثقف الذي يطرح أسئلة غير حقيقية ويجترح أجوبة وهمية ويوهم الناس أنه في كبير أمر وهو مجرد ظاهرة.
الانحدار ليس على مستوى الإنتاج ولكن على جودته. كانت الصحيفة عندما تنشر لشخص فهي تدمغ له بأنه كاتب، اما اليوم فيمكن لأي شخص أن يذهب إلى المطبعة ويخرج ما شاء من النسخ دون حسيب ولا رقيب، وقلما تجد دار نشر ما زالت تعتمد مبدأ “لجنة القراءة”، بمعنى أن كل من هب ودب يمكن أن ينشر كتابا حتى لو لم يكن صالحا لشيء.
كان المفكرون المغاربة أصحاب مشاريع واضحة وعناوين كبرى وأنساق يشتغلون من داخلها، وكانوا مع ذلك يتمتعون بالتواضع الكبير، بينما خاويات السنابل اليوم تمد رأسها تطاولا على الفكر والمعرفة بكل فروعها.
المسؤولية مشتركة. والمغاربة لما يفقدون المرجعيات في هذا الميدان فهم يتوجهون إلى التفاهة ويتبعون كل ناعق.
نذكر على سبيل المثال لا الحصر عبد الله العروي الذي يعتبر الحوار معه من الفتوحات الكبيرة، حيث يعتمد في تسويق أفكاره على كتبه الموجودة في المكتبات ونادرا ما يمنح صحيفة أو قناة أو إذاعة حوارا.
اليوم وجدنا مفكرين بلا أفكار يهربون نحو منصات التواصل الاجتماعي وحتى منصة “التيك توك” يهرف إليها بعض الدجالين الذين لا علم لهم حتى ينصبوا على عموم الناس.