محمد فارس
لو قُدِّر لي أن أكونَ مثقّفًا، لاخترتُ أن أنتسب إلى فئة المثقّفين الحقيقيين، لا المثقّفين المزيّفين الذين تعجُّ بهم البلادُ في كل مناحي الحياة وأضرابها؛ وقبْل أن نسأل عن المثقّف الحقيقي لنميّزَه عن المثقف المزيّف، وهو الأصل في البؤْس الذي تعيشه الثقافةُ، يجْدُر بنا أن نسأل عمّن هو المثقّف، وما هو دورُه، وما هي وظيفتُه؟ يجيب على هذا السّؤال فيلسوف كبيرٌ اسمُه [سارْتر] في كتابه: [دفاعًا عن المثقّفين]، صفحة (12)، فيقول: [لو أردتُم مثالاً على هذا التّصور الشائع للمثقف، لقُلت إنّ صفةَ “المثقّف” لا تُطلق على علماء يَعْملون في حقْل انشطار الذرة لتطوير أسلحة الحرب الذّرية وتحسينها: فهُم محْضُ علماء، لا أكثر ولا أقلّ؛ ولكن إذا ما انتابَ هؤلاء العلماء أنفُسهم الذّعْرُ لما تَنطوي عليه الأسلحةُ التي تُصنع بفضل جهودهِم وأبحاثهم من طاقة تدميرية، فاجتمعوا، ووقَّعوا بيانًا لتحذير الرأي العام من استخدام القنبلة الذّرية، غدَوا من فَوْرهم مُثقّفين، وذلك، بالفعل، لأنّهم: أولاً تجاوزوا صلاحيتهم على اعتبار أنّ صُنع قنبلة شيء، والحكمَ على استعمالها شيء آخر.. ثانيا، استغلّوا شُهْرتهم أو الصّلاحية الـمُعْطاة لهم ليتعدَّوا على الرأيِ العام، مُخفين بذلك الهوّةَ السّحيقةَ التي تفصل معارفهم العِلمية عن التقْييم السّياسي الذي يُجرونَه انطلاقًا من مبادئ أخرى للأسلحة التي يخترعونها.. ثالثا، لا يُدينون باسمِ نظام من القيَم قابِل كلّ القابِلية للنّقض والدّحْض، وضابطه الأعلى ومعيارُه الأسمى الحياةُ البشرية]..
وهكذا، فالمثقّف الذي يتميّز برَبطهِ بين الماضي والحاضر، فافْرض مثلاً أنّ طبيبًا درس كلّ ما يقوله عِلمُ الطّب الـمُعاصر عن الدّورة الدموية، دون أن يَدْري حرفًا عن التّطور التاريخي الذي انتهى إلى هذا العِلم الـمُعاصر الذي يعرفه، فهو عندئذ يكونُ عالـمًا في موضوع تخصُّصه، لكنّه ليس مُثقفًا، لكنْ إذا ما وقفَ وقفةً يَقْلب فيها صفحات الماضي ليعْرفَ كيف صار الأمرُ إلى ما صار إليه، فعندئذ فقط، يدخُل دنيا الثقافة بمقدار ما حاول أن يَربط الماضي بالحاضر في تيار متّصل؛ ولا غرابة بعد ذلك أن نقول إنّ الكلّيات الجامعية التي يسمّونها كلّيات نظرية، هي أَدْخل في الثقافة من الكلّيات العِلمية، لأنّ الدّراسة في الأولى يغلُب فيها اللّفتة إلى ما كان، ليُضاف إلى ما هو كائن، ومن ثمّة فهي بحقّ دراسة إنسانية كما يُطلق عليها أحيانا؛ ومن هنا أيضًا ترتفع الدّعوةُ في كلّ أرجاء العالم المتقدّم، بضرورة أن تُدخِل الكلّياتُ العِلمية إلى موادّها شيئًا من الدّراسة الإنسانية، لتكتملَ فيها صورةُ الثّقافة..
ومرّةً أخرى نجد أنفسنا بحاجة تَقتضي تعريف المثقف تعريفًا أدقّ، فوجدناه هو ذلك الشّخص الذي يروّج للقيم العليا (أخلاقية أو جمالية)، وفي هذا يكون الفرقُ بيْن من تخصّص في فرع العلوم، ووَقَف عند تخصُّصِه، وبيْن المثقّف، لأنّ مجرد التّحصيل العِلمي لا يدلّ بذاته على أيّ الأشياء وأيّ المواقف يكون أفْضل لحياةِ الإنسان؛ أما المثقّف فهو الذي لا يَنشر الفكر لمجرد فكْر وكفى، بل ينشره لأنّه في نظره هو الفكر الذي يُنتج حياةً أفضل؛ فالثقافة في حقيقتها خدمة وليست سلعة يُطْلب من ورائها الربح.. ويذهب [سارتر] إلى أبعَد من هذا، فيرى أن المثقّف هو ذلك الإنسانُ الذي يدركُ ويَعي التعارُض القائم فيه وفي المجتمع بين البحث عن الحقيقة العَملية مع كلّ ما يترتّب على ذلك من ضوابطَ ومعايير، وبيْن الإيديولوجيا السّائدة في مجتمعه.. إذن، إنّ المثقّف هو الشاهدُ على المجتمع الممزّق الذي أنتجَه، وهو بالتالي ناتجٌ تاريخي، المعبِّر عن هموم مجتمعه وقضاياه، لذلك قيل إنّه الشاهد على مجتمعه الممزّق، وهذا يتطلّب من المثقّف مسؤوليةً والتزامًا تجاه مجتمعه، وهذا هو المثقّف الحقيقي، وهو لا تعيِّنه سلطة أو جهة، ولا يحمل تفويضا من أحد؛ لكن لهذا المثقف عدوٌّ وهو ما يسمّى المثقّفُ المزيّف..
لكنْ مَن هو المثقّفُ المزيَّف؟ يجيب على السّؤال الكاتب الفرنسي [بول نيزان] فيقول: [ما أُسمّيه بالمثقّف المزيّف، هو ما يُمكن أن يطلقَ عليه اسمُ (كلب الحراسة) الذي تنتجه الطّبقةُ السّائدة للذّوْد والدفاع عن مصالح ذات النّزعة الخصوصية، كمصالح الأحزاب والفئات التي تصوّرُ نفسَها وكأنّها من إنتاج المناهج الدّقيقة والطّرائق السّياسية التي تدّعي الصّرامة، والدّقة، وخدْمة مصالح البلاد؛ والمثقّفُ المزيّف قبل كلِّ شيء مثقّفٌ مُباع، والمثقّفون المزيَّفون يَشعرون بأنّ مصالحهم مرتبطة بمصالح الطبقة السّائدة، ولا يريدون أن يَشعروا بغير ذلك؛ هكذا، تراهم يَتزيَّنون بزيِّ المثقّف، فيتظاهرون بنقد الطّبقة المهيمنة، بيْد أنّه نقدٌ مغشوش ومركّب، وبعبارة أخرى، لا يقول المثقّف المزيّف [لاَ] مثْلُه مثل المثقّف الحقيقي، بل يَقول [لاَ]، [ولكنْ]؛ أو يقول: [أعْلَم ذلك حقَّ العِلم، ولكن ينبغي أيضًا…] وما إلى ذلك.. وهنا أَطرح سؤالاً: هلْ في بلادنا مثقّفونَ حقيقيون؟ الجواب: أشكُّ في ذلك!