في عام 2016، اتخذ المغرب خطوة جريئة نحو مواجهة التحديات البيئية المتزايدة عن طريق إطلاق مشروع “زيرو ميكا”، الذي هدف إلى القضاء على استخدام الأكياس البلاستيكية وتقليل التأثير السلبي للنفايات البلاستيكية على البيئة. كان القانون الذي دخل حيز التنفيذ في يوليو 2016 جزءًا من استراتيجية بيئية متكاملة تتماشى مع استضافة المغرب لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP22) في مراكش، ما منح البلاد فرصة لتقديم نفسها كنموذج في حماية البيئة على المستوى الإقليمي والدولي.
ومع ذلك، بعد مرور ما يقرب من ثماني سنوات على دخول هذا القانون حيز التنفيذ، تظهر التحديات والمشكلات التي تواجه تطبيقه بوضوح. رغم النجاح الذي تم تحقيقه في البداية من خلال جمع وإحراق الأطنان من الأكياس البلاستيكية، وارتفاع مستوى الوعي البيئي في مختلف شرائح المجتمع، إلا أن النتائج على الأرض تشير إلى عودة قوية للاستخدام غير القانوني للبلاستيك في العديد من المناطق بالمغرب، مما يجعلنا نتساءل: هل يمكن للبلاد أن تستعيد زمام المبادرة، أم أن “زيرو ميكا” أصبح مجرد شعار من الماضي؟
في هذا التحقيق الأكاديمي، سنتناول أسباب فشل أو تعثر مشروع “زيرو ميكا”، مع التركيز على الجانب الاقتصادي، الاجتماعي، والبيئي لهذه المشكلة المتجددة. كما سنتعرض للآثار المترتبة على انتشار القطاع غير الرسمي لإنتاج البلاستيك، وكيفية معالجته. سنسعى أيضًا إلى تقديم تحليل معمق للخطوات المستقبلية التي يمكن أن تُتخذ لضمان استدامة المشروع وتحقيق أهدافه على المدى الطويل.
عندما أطلق المغرب قانون “زيرو ميكا”، كان ذلك جزءًا من التزامه الدولي بالحد من تأثيرات تغير المناخ وتعزيز الاستدامة البيئية. جاء القانون 77-15 الذي يحظر تصنيع واستيراد الأكياس البلاستيكية في إطار الاستعدادات لاستضافة COP22، الذي شهد مشاركة واسعة من الدول العالمية لمناقشة التحديات البيئية العالمية. كانت الأكياس البلاستيكية آنذاك تعتبر أحد أبرز التحديات البيئية التي تواجه البلاد، حيث تُقدر الكميات الهائلة من النفايات البلاستيكية التي تتراكم في الأراضي الزراعية، وعلى جوانب الطرق، وفي المحيطات، مما يتسبب في أضرار جسيمة للتربة والهواء والمياه.
منذ يوليو 2016، تم تطبيق القانون بشكل صارم، وتمكنت الحكومة في البداية من تحقيق بعض النتائج المثيرة للإعجاب. إذ تم جمع مئات الأطنان من النفايات البلاستيكية، وتولت مصانع الأسمنت حرق هذه النفايات بشكل آمن. ساهمت هذه الإجراءات في خلق حالة من الوعي البيئي في المجتمع المغربي. من جهة أخرى، تم تزويد الأسواق البديلة الصديقة للبيئة مثل الأكياس الورقية، وأكياس “البولي بروبيلين” غير المنسوجة، والتي كانت تهدف إلى أن تكون بديلاً عمليًا للأكياس البلاستيكية التقليدية.
خلال السنة الأولى لتطبيق قانون “زيرو ميكا”، استطاع المغرب تحقيق تقدم ملموس، إذ تم تقليص كميات الأكياس البلاستيكية في الأسواق بشكل ملحوظ، وتم تنظيف مناطق شاسعة من النفايات البلاستيكية. تم إنشاء حملات توعوية وإعلامية على الصعيد الوطني، حظيت بدعم من السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية التي كانت تسعى إلى تعزيز الفكرة لدى المستهلكين.
من جهة أخرى، تمت تهيئة الصناعات المحلية لاستيعاب البدائل الجديدة للبلاستيك. قدمت الحكومة دعمًا ماليًا وتدريبًا للشركات المنتجة للأكياس البديلة، وشهدت الأسواق زيادة في المنتجات التي تم تسويقها كبدائل مستدامة للأكياس البلاستيكية. بدا أن المغرب قد نجح في وضع نفسه على الطريق الصحيح نحو تحقيق أهدافه البيئية.
رغم النجاحات الأولية التي تحققت، واجه مشروع “زيرو ميكا” عدة تحديات تعيق تطبيقه الكامل. هذه التحديات أدت إلى تراجع نجاح المشروع مع مرور الوقت، وساعدت في عودة استخدام الأكياس البلاستيكية بشكل واسع.
أحد أهم التحديات التي واجهها مشروع “زيرو ميكا” هو عدم توفر بدائل فعالة وعملية للأكياس البلاستيكية التي اعتاد المستهلكون استخدامها. على الرغم من تقديم أكياس ورقية وأكياس غير منسوجة كبدائل، إلا أن العديد من المستهلكين اعتبروا هذه البدائل غير عملية. فالأكياس الورقية ليست متينة بما يكفي، مما يجعلها غير مناسبة لحمل السلع الثقيلة أو الاستخدام المتكرر، بينما الأكياس غير المنسوجة، رغم كونها بديلاً أفضل، إلا أنها مصنوعة من مواد بلاستيكية ولا تزال تسهم في التلوث على المدى البعيد.
هذا النقص في البدائل الملائمة دفع العديد من المستهلكين والتجار للعودة إلى استخدام الأكياس البلاستيكية المحظورة، حيث أصبحت هذه الأكياس تُباع في الأسواق بشكل سري أو حتى علني في بعض الحالات. وبالتالي، لم تحقق الحكومة الأثر البيئي المرجو من القانون.
مع مرور الوقت، بدأت تظهر ثغرات في الرقابة على تنفيذ القانون، حيث استغل المنتجون غير القانونيين هذا التراخي لزيادة إنتاجهم من الأكياس البلاستيكية. في بعض المناطق، ارتبطت هذه الأنشطة غير القانونية بضعف التنسيق بين السلطات المحلية وأجهزة الرقابة. ورغم وجود القانون، إلا أن التطبيق الفعلي كان ضعيفًا، خصوصًا في المناطق الريفية والأحياء الفقيرة حيث تعد الأكياس البلاستيكية جزءًا من حياة الناس اليومية.
بالإضافة إلى ذلك، أفاد بعض التقارير عن وجود تواطؤ بين بعض المسؤولين المحليين وأصحاب الورش السرية، حيث يتم غض الطرف عن الأنشطة غير القانونية مقابل حصول هؤلاء المسؤولين على بعض الامتيازات. هذا التواطؤ سمح بازدهار القطاع غير القانوني وزيادة توزيعه للأكياس البلاستيكية في الأسواق.
لقد أدى النمو الكبير في الأنشطة غير القانونية المتعلقة بإنتاج الأكياس البلاستيكية إلى حدوث تأثيرات سلبية على الاقتصاد المحلي، حيث باتت الشركات القانونية تعاني من منافسة غير عادلة من قبل الورش السرية. تشير التقديرات إلى أن القطاع غير الرسمي المرتبط بإنتاج الأكياس البلاستيكية يدر أكثر من 2 مليار درهم سنويًا، أي ما يمثل حوالي 20-30% من إجمالي دخل قطاع البلاستيك في المغرب. هذه الأرقام تعكس التحديات الكبيرة التي يواجهها القطاع القانوني الذي يعمل ضمن الإطار القانوني ولكنه يواجه تكاليف أعلى بسبب الامتثال للمعايير البيئية والضريبية.
الشركات التي تعمل بشكل قانوني تواجه صعوبة في المنافسة مع الورش السرية التي تستفيد من تكاليف إنتاج منخفضة نظرًا لاستخدامها المواد الخام المستعملة وعدم الالتزام بالقوانين البيئية والصحية. بالإضافة إلى ذلك، يستفيد هؤلاء المنتجون غير القانونيين من توافر القوى العاملة الرخيصة والتوصيلات غير القانونية بالكهرباء، مما يتيح لهم تحقيق أرباح كبيرة دون دفع الضرائب أو تكاليف الإنتاج الرسمية.
عودة استخدام الأكياس البلاستيكية بشكل غير قانوني يهدد البيئة بشكل مباشر. تعتبر الأكياس البلاستيكية أحد أكبر مصادر التلوث البيئي، حيث تحتاج مئات السنين لتتحلل. هذه الأكياس، التي تستخدم لمرة واحدة ثم تُرمى في الطبيعة، تتراكم في الأراضي الزراعية وعلى جوانب الطرق، مما يؤدي إلى تلوث التربة والمياه الجوفية.
إلى جانب ذلك، فإن حرق الأكياس البلاستيكية في مواقع غير مهيأة لذلك يؤدي إلى انبعاث غازات سامة تلوث الهواء وتساهم في زيادة نسبة الأمراض التنفسية وتلوث الهواء. وبالنظر إلى أن القطاع غير القانوني لا يتبع معايير السلامة البيئية، فإن الأضرار البيئية الناتجة عن هذه الأنشطة تكون أكبر وأكثر خطورة على المدى البعيد.
الشركات القانونية التي تعمل في مجال تصنيع الأكياس البديلة أو المنتجات البلاستيكية المصرح بها تواجه تحديات كبيرة نتيجة المنافسة غير العادلة من قبل القطاع غير القانوني. هذه الشركات تتحمل تكاليف أعلى نتيجة استخدام المواد الخام المستوردة والامتثال للقوانين البيئية، مما يجعل من الصعب عليها المنافسة مع الورش السرية التي تعمل بتكاليف أقل.
العديد من الشركات القانونية أُجبرت على إغلاق أبوابها أو تقليل نشاطها نتيجة لهذه المنافسة غير العادلة، مما أدى إلى فقدان عدد كبير من الوظائف في هذا القطاع. في المقابل، يشهد القطاع غير الرسمي زيادة في عدد العاملين فيه، حيث يتم تشغيل العمالة الرخيصة في ظروف غير قانونية وغير آمنة، مما يزيد من الفجوة الاقتصادية والاجتماعية.
من الدروس الأساسية التي يمكن استخلاصها من تجربة “زيرو ميكا” هو الحاجة إلى توفير بدائل عملية ومستدامة للأكياس البلاستيكية. يجب أن تكون هذه البدائل متينة وقابلة لإعادة الاستخدام، وتناسب الاحتياجات اليومية للمستهلكين. كما يجب أن تكون الأسعار معقولة لتشجيع المستهلكين على تبنيها كبديل دائم للأكياس البلاستيكية التقليدية.
تفعيل الرقابة القانونية على المستوى الوطني والمحلي يُعد أمرًا ضروريًا لضمان نجاح تطبيق القانون. ينبغي على الحكومة تعزيز إجراءات المراقبة والتفتيش ومعاقبة المخالفين بشدة. كما يجب تقديم الدعم الكافي للسلطات المحلية لمكافحة الأنشطة غير القانونية وتعزيز التنسيق بين مختلف الجهات المعنية بتنفيذ القانون.
نجاح أي قانون بيئي يعتمد بشكل كبير على مدى وعي المجتمع بأهمية الحفاظ على البيئة. يجب على الحكومة ومنظمات المجتمع المدني تكثيف حملات التوعية والتثقيف لتعريف الناس بمخاطر الأكياس البلاستيكية وتأثيراتها السلبية على البيئة. التعليم البيئي ينبغي أن يكون جزءًا من المناهج الدراسية لتربية جيل جديد واعٍ بالقضايا البيئية وقادر على تبني ممارسات مستدامة في حياته اليومية.
من الضروري تشجيع الابتكار في مجال الصناعات البيئية لتطوير بدائل جديدة ومستدامة للبلاستيك. يمكن للحكومة تقديم حوافز للشركات التي تعمل على تطوير منتجات صديقة للبيئة، ودعم المشاريع البحثية التي تهدف إلى إيجاد حلول بيئية جديدة. الابتكار يمكن أن يكون مفتاحًا لحل مشكلة البلاستيك بشكل مستدام.
رغم النجاح الأولي الذي حققه مشروع “زيرو ميكا”، إلا أن التحديات التي ظهرت في تطبيق القانون أظهرت أن التغيير المستدام يتطلب أكثر من مجرد تشريعات. يجب أن يكون هناك التزام طويل الأمد من قبل الحكومة والمجتمع لضمان حماية البيئة.
تحتاج البلاد إلى تطوير سياسات جديدة تتضمن توفير بدائل فعالة، تحسين الرقابة، وتعزيز الوعي المجتمعي. يمكن للمغرب، من خلال مواجهة هذه التحديات، أن يستعيد مكانته كقائد في مجال التنمية المستدامة على المستوى الإقليمي والدولي.