محمد فارس
الإنسان كائن تاريخي لا حيوان سياسي على حدّ تعبير الفيلسوف [غراميشي]، وعلى هذا الأساس، فالمغاربةُ كائنات تاريخية بتاريخ أمجادهم، ومفاخرهم، وحضارتهم، والتاريخ نفسُه يَشهد لهم بذلك رغم سياسات تحاوِل أن تجعل منهم مجرّد قُطْعان ثمّ (موتى بلاقبور) على حدّ تعبير [سارتر] زعيمِ الفلسفة الوجودية.. وحين نتحدّث عن التاريخ، فإنّنا نقصد تاريخ الإنسان، لأنّه الكائنُ الواعي بين الموجودات، ولا تاريخَ حيث لا وعي، ولهذا، فلا محلّ للحديث عن التّاريخ بالنّسبة إلى غير الإنسان.. هناك ثلاث نظريات، الأولى تَربط مسار التّاريخ بأحداث ومقاصدَ معيّنة حيث رُبطَ الزّمانُ بالخَلْق وبمصير الإنسان في الدّنيا ونهاية يرتبط بها حسابٌ وعقابٌ وثوابٌ يوم القيامة، ومن أبرز ممثّلي هذه النّظرية [فيلون] اليهودي، و[أغُسْطِين] المسيحي، و[ابنُ خلدون] المسلم.. والنّظرية الثّانية ربطَت التاريخَ بأحداث فلكية كونية وأبرزُ ممثّليها [رينان] و[أرنست هكل]، وهناك النّظرية الثّالثة ممّن يَرون أنّ التاريخ أزلي ولا نهايةَ له فيربطونه بالاجتماع وهو ما ذهبت إليه المادّية التاريخية بزعامة [ماركس]؛ فأي نظرية تنطبق على أحداث بلادنا يا تُرى؟ وأيُّ تفسير يوافق ما آلت إليه أوضاعُنا على ضوء تناوُب حكومات بلا مؤهِّلات؟ فأيّ تقدّم تاريخي أحرزناه، وأيّ تغييرٍ حقيقي حقّقناه، وأيّ إنسانٍ مغربي بنيناه؟ الجواب: لا شيء! والواقعُ الفاقِع يشهد بذلك رغم تطبيل الطبّالة وصراخ شعراء التّكسّب.
فحكومة المتمسّحين بالدّين قادت سفينة [تيتانيك] المغرب نحو جبل الثّلج المتمثّل بالدّيون، وبأعوص المشاكل، ولما شارفتِ السّفينةُ على الغرق، أخلوْها رغمًا عنهم، وثبتَ بلا مجالٍ للشّك أنّهم استعملوا الدّينَ لأغراض دنيوية صرفة، فاحتلبوا، وأزْبدوا، وأثرَوا، واغتنوا، فما حسبوا أيَّ حسابٍ للحساب والعقاب في الدّنيا والآخرة كما نصّت عليه النّظريةُ الأولى، وقد وصلوا إلى السّلطة بالخداع وخرجوا منها بفعل الخداع.. كان في طاقم [تيتانيك العثماني] أفراد لم يكونوا يبالون بالمخاطر التي تتهدّد السّفينة لعِلمِهم بضعف [العُثماني] منذ كان مجرّد وزيرٍ للخارجية في النّسخة الحكومية الأولى والتي أُعفِيَ منها واستُبدل بوزير يُدْعى [بوريطة]؛ وبفضل السّيد [أخنوش] استُبْدل [بنكيران] بالسّيد [العثماني]، ونزل مستوى الحكومة سياسةً وتدبيرًا إلى ما تحت الصّفر، وكان ذلك هو المطلوبَ للإجهاز عليها، وقد صرّح السّيد [العثماني] بأنّ السّيد [أخنوش] (مَنْفُوخ بالفلوس)، ونسيَ السّيد [العثماني] أنّهم (بالمال أصبحوا رجالاً)؛ وأنّه بالمال وقُفَفِ رمضان اسْتُميل الرّجال، وفي المعامل والضّيعات هدّد العمّال، فطلبوا من ذويهم وعائلاتهم التّصويت على المتحكّمين في الحال، وصدق [ڤيكتور هوجو] حين قال: [عندما يتحدّث المال، كلّ الأبواب تُفتَح]؛ وفي خضمّ محيط متلاطم، وبحرٍ هائج غرقتْ سفينة [العثماني] وهوَتْ إلى جحيم الأعماق ولم تنفعْ عملياتُ الإنقاذ، فشُكّلت حكومةُ التّجار، وعاد إلى السّاحة من كانوا في كراسي الاحتياط ومن أبرزهم السّيد [الطّالبي] الذي عاد إلى رئاسة برلمان به أغلبية تساند الحكومة ولا علاقةَ لها بتمثيل الشّعب، لأنّ الشعبَ له مَلِكٌ يَرعى مصالحه وليس له حكومة أو برلمان بغرفتيْه..
والحكومة الحالية تنطبق عليها النّظرية الثّانية التي ربطتِ التّاريخ بأحداث فلكية في شكل دوائر، وكلُّ دائرة تفضي إلى الأخرى، لكنّها دوائرُ فارغة حيث ترى انتخابات، ومعازل، ومهازل، وحكومة بلا برامج، وبرلمانا غُثائيا، وهي كلّها دوائر فارغة وكلّ دائرة تفضي إلى دائرة هي أشدّ منها فراغًا ثم لا جديد تحت الشّمس كما يقول علماءُ الفيزياء.. لقد صرّح [بنكيران] بُعيْدَ الانتخابات التي فاز بها حزبُه قائلاً: [سوف تروْن أوّل مفاجأة عندما سَنتسلّم الحُكم] وقد رأى المغاربةُ مفاجآت مذهلة مثل ما حدث للمعطّلين، والمتقاعدين، ورجالِ التعليم، وارتفاع للإسعار، ورأينا مطبّات [العثماني] من جهْل بما يجري في البلاد ومن تصرّفات في الأمم المتّحدة، وقس على ذلك، وهي مَآسٍ لم تُنْسِها خطبُه عندما تحوَّل فجأة إلى خطيب في المسجد خلال الحملة، في وقت أغدق السّيد [أخنوش] على المواطنين وعودًا وخاصّةً ما يتعلّق برجال التعليم، فلم يُوفِّ ولو بواحد من هذه الوعود الزّائفة، بل أنزل إلى السّاحة مطبّاتٍ ذُهِل منها المواطنُ في التعليم، وفي الأسعار، وفي جواز التلقيح الذي رفضه المغاربةُ لا لأنّه له أعراض ولكن بسبب فقْد الثّقة في حكومة وفي وسائل إعلامِها الـمُضلِّلة، فأزمةُ المواطن هي أزمة ثقة بالدرجة الأولى، والثّقة مِثلُ الرُّوح، إذا مَضتْ لا تَعود، وللحديث بقية..