مصطفى المنوزي
دشن الفقيد مولاي عبد الله إبراهيم مساره الحكومي بالتوقيع بالعطف على ظهائر الحريات العامة التي تحمل تواريخ 15 نونبر 1958، والحال أنه لم يعين رئيسا للحكومة التقدمية إلا يوم 27 دجنبر 1958، وهي ظهائر أنجزت فعليا في عهد حكومة أحمد بلافريج رئيس حزب الاستقلال، وقد أعدت المسودات (المشاريع) لجنة مختلطة برئاسة الفقيد علال الفاسي. وإذا كانت الخلفية من إصدار تلك الظهائر المتعلقة بتنظيم حريات التعبير والتنظيم والتجمع والصحافة هو أن “يمارس المواطنون حقهم في التنظيم والتظاهر والتجمع والإعلام بمجرد التعبير عن ذلك صراحة بواسطة تصريح لدى السلطة العمومية (دون شرط الترخيص منها)، بما فيها تأسيس الأحزاب التي تدخل ضمن “الجمعيات ذات الطبيعة السياسية”، بخلفية تأطير العمل السياسي وتدبير الصراع الفكري والسياسي والاجتماعي سلميا؛ فإن الشرط كان واضحا هو التخلي عن السلاح الذي كانت تحمله المقاومة المغربية وأعضاء جيش التحرير ضد الاستعمارين الفرنسي والإسباني؛ وقد استجاب عدد كبير من المواطنين وسلموا سلاحهم، وانخرط بعض أعضاء جيش التحرير في صفوف الجيش الملكي الذي تأسس والأمن الوطني في ماي 1956، غير أن نوايا النظام كانت غير حسنة وغير سليمة؛ فقد انقلب على بوادر “الانفتاح”، وفي ظله تم حل جيش التحرير المغربي بعد تصفية أغلب أطره خلال عملية إيكوفيون الفرنسية/ الإسبانية بتواطؤ مع القصر آنذاك، وتم حل الحزب الشيوعي المغربي (حزب التحرر والاشتراكية/ التقدم والاشتراكية لاحقا)، دون أن ننسى قمع انتفاضتي الريف خلال سنتي 1958 و1959. وعلى إثر وقائع انتفاضة ثالث مارس 1973 المسلحة تم حل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي لم يعد ينتمي إليه عبد الله إبراهيم والمحجوب بن الصديق وعبد الهادي بوطالب وامحمد بن سودة والمعطي بوعبيد وعبد القادر الصحراوي ومحمد عواد وغيرهم ممن أسسوا منظمة 23 مارس؛ وتم تعديل ظهائر الحريات العامة وقانون العدل العسكري والمنظومة الجنائية في منحى تراجعي عن المكتسبات السابقة. وخلال هذا المسار، الذي اختصرناه، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، في العلاقة مع إشكالية التدبير السلمي للصراع حول السلطة، والذي تطور إلى الصراع مع السلطة، فالصراع والمشاركة السياسية من داخل السلطة توجا بما يسمى بالتناوب التوافقي على تدبير الشأن العام تحت إشراف المؤسسة الملكية. غير أنه رغم هذا التحول المعاكس والقهقري عن مطلبي التحرير والديموقراطية ورغم المراجعات السياسية والفكرية بفعل إرادات ذاتية أو موضوعية (سقوط جدار برلين)؛ ستظل عقدة انعدام الثقة متطاوسة ومترسبة بين النظام البائد وبين الحركة الوطنية التقليدية والتقدمية، مادامت عقدة العلاقة مع الخارج (التعاون الأمني والتمويل الأجنبي والسيادة المالية) والقوة العمومية والجيش تطارد الأطراف، الشيء الذي سيؤثر على علاقة لحظاتنا الوطنية على حساب اللحظة الديموقراطية المنشودة، وبالأحرى ترهن لحظات الحقيقة والإنصاف والمصالحة. والآن وبعد عقدين ونيف من حلول العهد المحمدي محل العهد الحسني، وبعد استنفاد العملية السياسية، التي رافقت العهد الجديد، دورتها وبلغت ذروتها دون بلورة جيل جديد من الإصلاحات يقطع مع أعطاب الماضي ومع سلبيات ولايتي “الفقهاء” الدعويين الحكومية، يبدو أن الدولة المغربية تواجه مرحلة صعبة تجاه تحديات بناء دولة صاعدة ومستقلة عن الخوارج التقليديين والجدد، مقابل إرساء “نموذج تنموي جديد “يفتقر إلى موارد حقيقية وإلى الأبعاد الاجتماعية، ناهيك عن إكراهات الانتقالات السياسية المحتملة في ظل حصارات وتوترات الجوار وتحديات وترددات الحلفاء والعملاء الجدد أو قدماء فلول الاستعمار.