محمد فارس
بعْد كوْنه من الأنصار، فهو واحِد من زُعمائهم الذين اتّخذهم الرسول نُقبا على أهليهم وعشائرهم؛ وحينما جاء وفدُ الأنصار الأول إلى [مكّة] ليُبايِع الرسول على الإسلام، تلكَ البيعة المشهورة بِـ[بيْعة العقَبة الأولى]، كان [عُبادةُ] رضي الله عنه، أحَد الاثني عشر مؤمنًا، الذين سارعُوا إلى الإسلام، وبسَطُوا أيمانهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مُبايِعين، وشدُّوا على يمينه مُؤازِرين ومسلمين.. وحينما كان موسمُ الحجّ في العالم التالي يشهَد [بيْعة العقبة الثانية] يُبايِعها وفدُ الأنصار الثاني، مكوَّنًا من سبعين مؤمنا ومؤمنة، كان [عبادةُ] أيضًا من زُعماء الوفد، ونقباء الأنصار.. وفيما بعْد، والمشاهدُ تتوالى، ومواقفُ التّضحية والبذل تتتابع، كان [عبادةُ بن الصامت] هناك، لم يتخلّفْ عن مشْهد، ولم يبْخَل بتضحية؛ ومنذ اختار الله رسوله، وهو يقوم على أفضل وجْه بِتَبِعات هذا الاختيار كل ولائه لله، وكل طاعته لله، وكل علاقاتِه بأقربائِه، وبحُلفائه، وبأعدائه، إنّما يشكلها إيمانُه؛ كانت عائلة [عُبادة] مرتبطة بحِلْف قديم مع يهود [بني قَيْنُقَاع] بالمدينة، ولكنْ حين شرعوا يتَنَمّرون، ولا يكاد [عُبادة] يرى موقفهم هذا، حتى ينبُذ إليهم عهدَهم، ويَفسخ حِلفهُم قائلاً: [إنّما أتولّى الله، ورسوله، والمؤمنين]، فينزل القرآن مُحيِّيًا موقفَه، وولاءَه، قائلاً في آياته: [ومَن يَتَولَّ الله ورسولَه، والذين آمنوا، فإنّ حزْبَ الله هُمُ الغالبون].
وهكذا، فإن الرّجُل الذي نزلتْ هذه الآيةُ تُحيِّي موقفَه، وتشيد بولائه، لن يظل مجرّد نَقيبٍ من نُقباء الأنصار، بل سيصيرُ نقيبًا من نقباء الدّين الذي سَتُزْوَى له أقطارُ الأرض جميعًا.. أصبح [عُبادة بن الصّامتِ] نقيبَ عشيرته من (الخزرج)، رائدًا من رُواد الإسلام، وإمامًا من أئمّة المسلمين، يَخفق اسمُه كالرّاية في معظم أقطار الدنيا، لا في جيْل، أو في جيْليْن، أو ثلاثة، بل إلى ما شاء الله من أجيال، ومن أزمان، ومن آماد.. سمِع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومًا يتحدّثُ عن مسؤولية الأُمراء والولاة، سمِعَه يتحدّث عن المصير الذي ينتظِر من يفرِّط في حقّ، أو تعبث ذمَّتُه بمال، فزُلْزِلَ زِلزالاً، وأقسَمَ بالله ألاّ يكونَ أميرًا على اثنيْن أبدًا، وقد برَّ بقسمِه؛ وفي خلافة [عُمَر]، لم يستطع الفاروقُ أن يَحْملَه على قَبول منصبٍ ما، اللهمّ إلاّ تعليم الناس وتفقيههِم في الدين؛ هذا هو العملُ الوحيد الذي آثره [عُبادة بن الصامت]، مبتعدًا بنفسه عن المناصب والأعمال الأخرى المحفوفة بالزّهو، وبالسّلطان، وبالثّراء، والمحفوفة أيضًا بالأخطار التي يخشاها على دينه ومصيره؛ وهكذا سافر إلى (الشّام) ثالثُ ثلاثة: هو، ومعاذ بْن جبل، وأبو الدّردَاء، حيث ملؤُوا البلادَ عِلمًا، وفقْهًا، ونورًا؛ وسافر [عبادةُ] إلى (فلسطين)، حيث وُليَ قضاءها بعض الوقت، وكان يحكُمها باسم الخليفة آنذاك [مُعاوية]، فيرتدُّ بصرُ [عُبادة] إلى حيث يقيم في [فلسطين]، فيرى [معاويةَ بن أبي سُفيان]، رجل يحبُّ الدنيا، ويَعشق السلطان، فمضى [عُبادة] يقيسُ تصرّفات [مُعاوية] بهذا المقياس، فكانت الشّقة بين الاثنين واسعة، وكان الصّدامُ محتومًا لا محالة..
يقول [عُبادة] رضي الله عنه: [بايعْنا رسول الله، على ألاّ نخافَ في الله لوْمَة لائم]، فإذن، فهو لن يَخْشى [معاوية] بكلّ سلطانه، وسيقف بالمرصادِ لكلِّ أخطائه ولقد شهِدَ أهلُ (فلسطين) يومئذ عجَبًا، وترامتْ أنباءُ الـمُعارضة الجسُورة التي يَشنُّها [عُبادة] على [مُعاوية] إلى أقطار كثيرة، فكانت قدوةً ونبْراسًا.. ضاق صدرُ [مُعاوية] بمواقف [عُبادة]، ورأى فيها تهديدًا لهيْبة سُلطانه، ورأى [عُبادةُ] من جانبه أنّ مسافة الخُلْفِ بيْنَه وبيْن [مُعاوية] تزداد وتتّسع، فقال لِـ[مُعاوية]: [والله لا أُسَاكِنُكَ أرضًا واحدةً أبدًا]. وغادر [فلسطين] إلى المدينة، لكن، لم يكَدْ [عمرُ] يُبْصر [عُبادة بن الصامت] وقد عاد إلى (المدينة)، حتى سأله: [ما الذي جاء بِكَ يا عُبادة؟]؛ ولما قصَّ عليه ما كان بيْنه وبيْن [مُعاوية] قال له [عمَرُ]: [اِرْجِع إلى مكانِك، فقبَّح الله أرضًا ليس فيها مِثْلُك]، ثم أرسلَ [عمَرُ] إلى [مُعاوية] كتابًا يقول فيه: [لا إمْرةَ لكَ على عُبادة]؛ أجَل، إنّ [عبادة] أمير نفسه، ولقد كان [عبادةُ] عظيمًا في إيمانه، وفي استقامتِه، وفي استقامةِ ضميره وحياته.. وفي العام الهجري الرّابع والثلاثين، توفي [عُبادةُ بن الصامت] بِـ[الرَّمْلة] في أرض (فلسطين)، هذا النقيبُ الراشِدُ من نُقباءِ الأنصار في الإسلام، تاركًا في الحياةِ عَبيرهُ وشَذاه؛ رحم الله [عُبادة]، وأسكنه فسيحَ جنّاتِه لـمَا أسداه لله، ولرسوله، ولدينه؛ آمين!