في الاستحقاقات القادمة هل تُعِدّ الأيادي الشّريرة نفس الحريرة؟
محمد فارس
لا نريد أن تتكرّر التّجربة التي ما زلنا نجرّ أذيال خَيْبتها؛ تجربة قد تكون كسابقاتها من حيثُ النّتائج، وإنِ اختلف الأسلوب، واعتُمِدتِ الوسائل بالمقلوب، واستاءتِ الأنفُس لِـما رأتْه من عُطالة الضمائر، وتحجُّر القلوب.. وكم، وكم، وكم صبِرنا حتى ضاق من صبْرِنا صبرُ أيُّوب.. وها نحن مُقبِلون على تجربة جديدة، وهي الثالثة في القرن الحادي بعد العشرين، فإذا ما حالفها النّجاح، في هذه الظّرفية العسيرة، فسوف نجني فوائدَ كثيرة.. لكن، لو نشطتْ مرّة أخرى تلك الأيادي الشّريرة، فستكون تجاربُنا الدّيمقراطية مجرّد فُرص نحتسي فيها كُؤُوسًا مريرة.. هذا، إذا ما تكرّرتِ المهزلة، وأعدّ الطّباخون مرّةً أخرى للشعب نفس الحريرة.. فإذا ما أُنتِج نفسُ الإنتاج، وهو ما ليس إليه الشّعبُ بمحتاج، فسَيُصوَّر الشّريطُ بنفس السّيناريو، وبنفس الإخراج.. فانتخاباتُنا معروفة، ونتائجُها على الدّوام موصوفة، والوجوه التي تتسمَّر على شاشة النتائج مألوفة.. قد يُقال: كيف ذلك؟
انتخاباتُنا تتدرّج عبْر أربعة فصول، لتحديد النتائج وتقييم المحصول.. أولاً مرحلة (البرّاح) الذي ينادي الناسَ بالتّسجيل في اللوائح، ثم يحثّهم على التّصويت، ويمنّيهم بالأيام الـمِلاح.. وسنصوّت كما صوّتْنا عبْر سنين خلتْ، حتى وإنْ كانت الثّقة بالأوثان قدِ اختلَّتْ.. وبعد دوْر (البرّاح)، يأتي دورُ المدّاح، الذي وفي كلّ خطاب يوزّع الأقداح.. فتذهب صهْباؤُه بعقل العاطل والعامل والموظّف والفلاّح.. فيدوّخُ ما استطاعَ من النّاس بأسلوب الرّاح.. فيتغنّى ببرنامج موكّلِه ثم يزيد فيه ما نقَص من توابلَ وأملاح.. ثمّ ماذا؟ يَستدعي العوام، إلى التجمّعات الـمِلاح.. فيتلو فيها إصحاحَ مستقبل الإصلاح.. ثم يناشد الناسَ بالتّصويت على (فلان)، ويجتهد في صيَغ الإلحاح.. ثمّ يُزبد، ويُرغي، ويتخشّع، ويَضرب بجُمْع اليد على الألواح.. وما تلكُم إلا بداية مسرحية الكُساح..
ثمّ ماذا؟ تأتي مرحلة النّفاق، حيث يمرّ المرشّحُ شخصيًا بالحيّ والدّرب والزّقاق.. يمنّي بالمستقبل الزّاهر، وبجميل الآفاق.. ويحاول أن يمسح من ذاكرة الناس كلّ آثار وكلّ بصمات الإخفاق.. وحتى وإنْ كان تاركًا للصّلاة، فإنّه يستجيب هذه المرة لِـ[حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح] تمشيًا مع أسلوب النّفاق.. وحتى إذا لم يَكُن [طوَّاسًا]، ولا دِراية بفنّ [الكَاس]، فهذه المرّة رغمًا عنه يُصبح من محبِّي شِعْر [أبي نواس].. وهو على حقّ، عليه قبْل أن يصبح ممثّلاً للنّاس، كان عليه أن يكون ممثّلاً على النّاس.. فهو حَرْبائي بطبعه، فإذا لقيَ المؤمنين، كان أتْقاهُم، وإذا لقيَ الفاسقين كان أشقاهم.. فهو لا علاقة له بالسّياسة كفنّ، وحذاقة، فهي غريبة عنه، لكن لا بأس، فحتى القِرد يتقمَّص شخصية الإنسان وما هو بإنسان.. فيُضْحِكُنا بلا فُستان، وبلا لسان، بل فقط بالإشارات والإيحاءات والبُهتان.. وكلّ ذلك جائز، ومشروع في الوصول إلى البرلمان.. ففي سبيل البرلمان كلُّ شيء يهون، ولا يهمّ أن تستحيل إلى قرد أو خنزير أو ثعبان.. كل شيء مباح، فالمقاعد تبرّر كلَّ أنواع المصاعد.. وفي الأيام الأخيرة للحَمْلة، بعد خطابات وشعارات النّفاق، تأتي مرحلة الإنفاق، لتدعيم الشِّعار الخفّاق.. فتنشط سِرّا، ليلاً ونهارًا، حركةُ الشِّراء، ويتعاظم الـمُصاب للحصول على النّصاب.. وتبدأ مرحلة الكُساح، هذا يقوم بالاكتساح، وذاك يصطاد الضّحايا بأجْر، ليُلقي بهم في مستنقع التّمساح.. وكم رَجُل غَرتْنا استِماتتُه، لكنْ أمام الإغراء ظهَرت شماتتُه.. ولما سمع الوعود، وهي تُعْزف بالطّر والعُود، ورأى المبلغ، تكَلْبَن وفي الإناء ولَغ.. وبذلك، تنتهي الحمْلة والضّحك على الذّقون بالتّقسيط والجُملة.. وهكذا، يصبح العِتريس بستانيًا، والذئبُ راعيًا، والوُصولي برلمانيا..
ولـمّا فاز، ما عاد إلى الحيّ ولا منه (داز).. فلا تراه إلا وهو يرفع الأصبُعَ في القبّة وتُنقَل خيْبتُه على شاشة التّلفاز.. وخلال خمس سنين، يحقّق لنفسه ولذويه أعظمَ وأثمنَ الإنجاز.. لكن تجاه الشعب، يرفع أُصبُعه للزّيادة في الأسعار، وخَصْم من تعويضات المتقاعدين، والاقتطاع من أجور الموظّفين، ولكل مظالم تراه على الدّوام إلى ذلك جدّ منحاز.. لكنْ، في قرارة نفسه، يظلّ حريصًا على الأبّهة، والحصانة، وعلى كلّ امتياز.. فهل يعيدون الكرَّة، هذه المرّة، أم سيكون لهُمُ الشعب بالمرصاد فيستاؤون منها [جُرَّة]؟ هل سيثور الشّعب على زُمَر السّلب، والنّهب، ولن ينالوا من خيرات الأمّة مثقالَ ذَرّة؟ إذن، اِنْسفوهُم بأصواتِكم، واقْطَعُوا إلى الأبد مع مهازل المعازل، ولا تأخذكم بهم رحمة.. فهؤلاء هم من خدعوكم، وتَخوَّضوا في أرزاقكم، واعتبروكم مجرّد أصوات، لا ذوات، ومجرّد أرقام في يانصيب الانتخابات، فأصواتُكم سلاحُكم، وكلّ صوْت يُعتبَر لكمةً توجّه لأسنان الأَكلَة.. فلا تصدّقوهم، فكفانا ما صنعوا بنا، واحذَروا ما وراء الأَكَمة، فالمغربيُّ الحرُّ، الأبيُّ، لا يُلدَغ من جُحْر الأحزاب مرّتين.. فمِن أجل التّغيير، بطاقة النّاخب تَعني الكثير، وفي المعزل لكم فرصةُ التّعبير.. وإلاّ، ستَدُورون دوما، أبدًا، في دوّامة الإنتاج وإعادة الإنتاج، لكنْ إلى متى؟!